وبقرية روحين من جبل سَمْعان مشهد فيه ثلاثة قبور. الأوسط منها قبر قُسّ بن ساعدة الإياديّ الذي يُضْرَبُ به المثل في الفصاحة ويقول فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: مهما نسيتُ من شيء فلستُ أنساه في سوق عكاظ وهو واقف على جمل أورق يخطب الناس وهو يقول: " يا أيّها الناس اسمعوا فإذا سمعتم فعوا فإذا وعيتم فانتفعوا وإذا انتفعتم فقولوا وإذا قلتم فاصدقوا من عاش مات ومن مات فات وكلّ ما هو آتٍ آت مطرٌ ونبات وأحياء وأموات في السماء خبر وفي الأرض عبر يحار منها البصر مهاد موضوع وسقف مرفوع ونجوم تمور وبحار تفور. أقسم قسّ قسماً حقاً لا كاباً فيه ولا آثماً: لئن كان لي الأمر رضىً ليكوننّ سخطاً. يا أيّها الناس إنّ لله ديناً هو أحبّ من دينكم هذا الّذي أنتم عليه وهذا زمانه وأوانه ". ثمّ قال: ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال: أيّكم يروي لنا شعره؟ فقال أبو بكر رضه: فداك أبي وأميّ وأنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول:
في الذاهِبِينَ الأَوّلِي ... نَ مِنَ القُرُونِ لَنا بَصائِرْ
لَمّا رَأَيْتُ مَوارِداً ... لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَها مَصادِرْ
وَرَأَيْتُ قَوْمي نَحْوَها ... تَمْضي الأَصاغِرُ وَالأَكابِرْ
لا يَرْجِعُ الماضي إِليَّ ... وَلا مِنَ الباقِينَ غابِرْ
أَيقَنْتُ أَنّي لا مَحا ... لَةَ حَيْثُ صارَ القَوْمُ صائِرْ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله قُسّاً أمّا إنّه سيبعث أمّةً وحده.
وممّا يُحكى عنه أنّ رجلاً من عبد القيس قال: خرجتُ في شبيبتي أتّبع بعيراً شرد مني أقفوا أثره فبينما أنا في فلاة أجوب سبسبها وأرمق فدفدها إذا أنا بعين خّرارة وروضة مدهامّة وشجرة عادية وإذا بفتّى جالس في أصلها وبيده قضيب فدنوتُ وحييّتُه فردّ عليّ فقلتُ ما اسمك؟ فقال: قُس. ثمّ وردت العين سباع كثيرة وكان كلّما ذهب سبع من السباع يشرب الّذي ورد قبله يضربه قُس بالقضيب الّذي في يده ويقول: حتّى يشرب الذي ورد قبلك. فذعرتُ لذلك ذعراً شديداً فنظر إلي وقال: لا تخف.
وهذا المشهد كان مهجوراً لا يمكن أحد الإقامة فيه والزوار يأتون إليه ويمضون من ساعتهم ذلك لكثرة اللصوص والمتحرّمين. فاتّفق في أيّام الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف أيّوب صاحب حلب إذ ذاك في سنة ستمائة أنّه ندب من ديوانه سديد الدين مظفّر بن أبي المعالي ابن المخيخ الحلبيّ المولّد ليقيس جبل بني عُلَيْم وغيره وكان به حمّى باردة مع فالج اعتراه وله به مدّة. فلمّا وصل في القياس إلى المشهد حُم فلمّا غلبت عليه الرعدة نام به فخرج إليه فلاّحو الضيعة وحذّروه من المبيت في المشهد لكونه خراباً مخيفاً فنذر على نفسه أنّه متى برئ من مرضه عمّره وسكنه ونام فيه ليلته. فلمّا كان في ثناء الليل انتبه فوجد في نفسه قوّةً فلما أصبح رأى جميع ما كان به من المرض قد زال. فعند ذلك تفقّر ولبس عباءةً وقطع شعره وأباع جميع ما كان يملكه من خيل وعُدة ومِلك وعمّر به هذا المشهد والحمّام والبستان وحرّر العين بعدما كانت ملآنة من التراب مسدودةً وأقام به إلى أن درج رحمه الله.
وكان الملك الظاهر حضر إلى هذا المشهد في أيام عمارته وأعجبه ما اعتمده سديد الدين المذكور فأوقف عليه وعلى عقبه خُمْس قرية روحين وكان عند وفاته الملك المعظم فخر الدين توران شاه بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب مُقْطعاً روحين فعاد أمر هذا المشهد إليه فولّى فيه من قبله إنساناً يعرَف بالنفيس من أهل مصر ولم يزل به إلى أن توّفي إلى رحمة الله تع وتولّى بعد وفاته ولده ويُعرف بالشمس محمّد ولم يزل به إلى أن عُزل عنه وولي شخص آخر يُعرَف بالشجاع العجميّ ولم يزل به إلى أن تُوّفي إلى رحمة الله تعالى. ولمّا عظّم الملك الظاهر أمر هذا المشهد عظّمه الناس وبنوا به عمائر من جملتها البركة الخارجة عن المشهد بناها أحد الفلاّحين ويُعرَف بالحاج عثمان من أهل تلّ رُمّانين.