ويُنهي أنه طالع المقام الشريف بأمره الهدنة وانقضاء مُدتها. وانفساخ عُقدتها. وعند ذلك أخلى الفرنج - خذ لُهم الله - القدس الشريف من سكانه. وانتقل كل منهم عن وطنه إلى صيره منْ أوطانه. وأقام به كند من كُنُودهم. ومقدَّم من جُنودهم. وهو فارس مشهور من فرسانهم. وطاغية يُذكر من شُجعانهم. كان قد عمر قلعة القدس في مدّة الُهدنة وحصنها. وملأها بالعُدد والآلات وشحنها. ووصلها ببرج يقال له " برج داود " النبي - عليه الصلاة والسلام - ابتناهُ لنفسه مسجداً. واتخذه لخلوته معبداً.

وهو برج عظيم المقدار والحجم. مُبار في المنعة الجبل وفي الرفعة النجم. ينقلبُ البصر عن نظره خاسئاً وهو حسير. ويتهم الراوي في خبره ولو أنه به خبير. قد بُني بالصفاح والعمد. وتأنَّّق بانوه في إحكامه فما طال عليهم الأمد.

وهو من أَسفله إلى ثلاثة قد صب فيه الحجر والكلسُ صبا. ورُدم بقوَّة بحيث لو حضره يأجوجُ ومأجوج ما استطاعوا أن يُظهروه ولا استطاعوا له نقبا. فكأن الله قد أَلانَ لدَاوُدَ الصًّخر كما أَلان له الحديد في بنيانِه. أَوْ كأنه استعان في اتقانه بجنّ سليمانه. واستغرى اللَّعين معه طائفة من شجعان الأبطال وأبطال الشجعان. ومن المشهورين بالشدة والبأس إذ التقى الجمعان. قدْ ركُبوا في الغيّ رُؤوسهم. ووطَّنوا على القتل نفوسهم. يتهافتوُن على نار الحرب تهافُت الفراش. وَيَردُن حيِاضَ المنُون ورود الإبل العطاش. لا يلتقون سهام القسيِّ إِلاَّ بنحورهم. ولا حجارة المنجنيق إِلاَّ بصدورهم. وبايعوه على الموت وحالفُوا. وطاوعوه على الضلال فما عصوا ولا خالفوا.

ثم عمدوا إلى القلعة والبُرج فستروهما بالستائر المخلدة. والخشب المسندة. والعمد الممدّدة. وأوقدوا للحرب نار الشيطان الموصدة. لا بل نار الله الموقدة. فزل العبدُ عليهم بطائفة من عسكره. وراوحهم وغاداهم بالمناوشة في أصائل الحصار وبكره. ورجا بالمطاولة أن يسلموها من غير إراقة دم. أو قتل موحدٍ يفتدي من المشركين بأمم.

فتجمعوا على الضلال وتألبوا. وحادوا عن طريق الرشاد وتنكبوا. وتوثبوا لنصر اصليب وتصلبوا.

فقاتل العبد صليبهم بصليب من الرأي لا يعجم عوده. وقابل جأشهم بجيش من المصابرة لا يفل جنوده. وجرد لهم جماعة من عبيد الديوان تُرسل إليهم البوائق من نبالها. وتشهر عليهم الصواعق من نصالها.

ونصب عليها المناجيق التي تزحم الحصون بمناكبها. وتحرق شياطينها برجوم حجارتها بدلاً من نجوم كواكبها، ومن شأنها أنها إذا قابلتْ بلدةً أذتْ بكظمها. وقضت برغمها. وأنزلتها على حكمها. فرمتهم بثالث الأثافي من جبالها. وسحرت أعينهم إلا أن الله ما أبطل سحر عصيها ولا سحرَ حبالها.

وأحد النقابون في الأسوار نقوباً سفرت نقابها. ورمى الزراقون في الستائر نيراناً هتكت حجابها.

وكان الملاعين قد طمحت إلى الممانعة عيونهم. وغلقت بالمصابرة زهونهم. وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم. فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا. وجزاهم بما كسبوا. ومكن أيدي المؤمنين من نواصيهم. وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب منْ صياصيهم.

وطلعت على الأسوار المنيفةُ، من الأعلام الشريفة، الرايةُ التي أعادت بسناها آية الليل لكن من آياته النهار إبصار. وأعظم من النيرين الشمس والقمر ضياء وأبداراً.

وأخذ العبد القلعة وتسلمها. وافترع ذروتها العُليا وتسنمها. وتبرجت له أبراجها المصونة وتجلت. ومُدتْ له أرضها فألقت ما فيها وتخلت.

ولجأت من الملاعين طائفة إلى " برج داود " ترجو حقن دمائها. وتقنع بسلامة ذمائها. وما علموا أنهم دخلوا منه سجْناً لا حصناً. ونزلوا به قبراً عجل لهم، وهم في قيد الحياة دفنا.

وسيروا رسولاً لهم الأمان على نفوسهم وأموالهم. والخروج بما يقدرون عليه من أسلحتهم وأثقالهم. فما سمع العبد لرسولهم كلاما. ولا شفا لغُلتهِ أو أما. ولا عرج على مخاطبته حتى يقول لجهالته سلاما. بل أمر الحجارين أن يحدوا في نقب جداره من جميع أقطاره. ويجتهدوا في قطع حدماره بقلع أحجاره. ويوقد على عدوّ الله ناراً تحرقه في الدنيا قبل أن يحرقه الله في الآخرة بناره.

فعادوا بعدَ ذلك سألوا الأمان على نفوسهم. والخروج بمجرد نفوسهم. فأجابهم العبد إلى هذه المسألة الهينة الممكنة. وخرجوا وقد ضُربت عليهْمْ الذلةُ والمسكنة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015