ولما صارت فلسطين في يده، أقطع القدس لأبي الهيجاء السمين، فعصى عليه في سنة اثنتين وتسعين، فقصده. وفيها الملك العزيز دمشق، وسلّمها لعمه الملك العادل، ونزل له عن القدس، واسترجعه من أبي الهيجاء، وأقطعه سنقر الكبير، ثم استعاده منه، وأقطعه ميمون القصري سنة أربع وتسعين.
ومات العزيز في سنة خمس وتسعين، وجعل الأفضل أتابكاً لوالده الملك المنصور بمصر.
فلما ملك الملك العادل مصر مع ما كان بيده من البلاد أقطع دمشق والأردن وفلسطين لولده الملك المعظم شرف الدّين عيسى، واستمرت في يده إلى أن توفي الملك العادل في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة.
وبقيت البلاد في يده إلى أن قصدت الفرنج دمياط واستولوا عليها فاستنجده أخوه الملك الكامل صاحب مصر، فلما وصل إليه شكا ما الفرنج عليه من القوة، وسأله أن يعطيه القدس، وكوكب، والطور، ليعطيها للفرنج عوضاً عن دمياط، فأسرها في نفسه ووعده فيها بما طاب به قلبه.
ولما تضايق بالملك الكامل الأمر في حصار " دمياط " بعث أخاه الملك المعظم إلى أخيه الملك الأشرف يستنجده، وهو بحران، فأخرب القدس في طريقه وكوكب، حتى لا ينتفع بهما الفرنج، ولا يرغبون فيهما. وبقي في يده خرابا إلى أن توفي سنة أربع وعشرين وستمائة.
فخرج الملك الكامل إلى الشام في شوال سنة خمس وعشرين فولى في بلاد فلسطين، وكان الانبرطور قد وصل إلى عكا، والملك الكامل في بنابلس، فكتب إليه الإمبراطور أن يسلم القدس وجميع ما فتحه صلاح الدين ويلقاه. وتردّدت الرسل بينهما في ذلك، وكان للملك الكامل غرض في تملك دمشق، فجمع الأمراء واستشارهم فكلّ منهم أشار بالعود إلى " تل العجول " خلا الأمير سيف الدين ابن أبي زكري فانه قال: " أبق دمشق على ابن أخيك الملك الناصر، واطلبه، واطلب أخاك الملك الأشرف وعسكر حلب. ونقاتل هذا العدوّ فإما لنا وأمّا علينا، ولا يقال عن السلطان أنه أعطى الفرنج القدس ". فامتعض لذلك وقبض عليه وسيره إلى فحبسه فيها.
وعاد إلى " تل العجول " واستدعى الملك الأشرف من دمشق، وكان قد وصل إليها ليدفعه عنها، فلما غلب على الملك رغبته في تملك دمشق في تملك دمشق أذعن لتسليم القدس للإمبراطور، فتسلمه في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين.
واستمر القدس في أيدي الفرنج إلى أن توفي الملك الكامل في سنة خمس وثلاثين بدمشق وملك الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود ابن الملك العادل بعده، فقايض الملك الصالح نجم الدين أيوي ابن الملك الكامل عن دمشق بسنجار وغيرها، فوصل إلى دمشق، ثم خرج منها إلى نابلس في سنة سبع وثلاثين قاصداً مصر، وفيها أخوه الملك العادل، فاستولى على دمشق الملك الصالح عماد الدين إسماعيل. وقبض الملك الناصر على الملك الصالح بنابلس إسماعيل، وحبسه في الكرك، وجمع عسكرا عظيماً ونزل به على القدس، يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى من السنة، وكان الفرنج قد عمروا به برجاً يعرف " ببرج داوُد " وحصنوه، فنصب عليه المجانيق وضايقه إلى أن تسلمه يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة.
وملك بيت المقدس وولى فيه منْ قبله.
وكتب كتاباً بيده إلى الخليفة المستنصر من إنشائه نُسختهُ: أدام الله ظل الديوان العزيز النبوي ما دامت الأيام والسنون. وفتح بعزمه مستغلق الحصون. وأذاع ببركته سر النصْر المصُون. وأطلع البشائر بابه يانعةَ الثمار، ناضرة الغُصون. وقضى لأوليائه بنيل الُمنى، ولأَعدائه بنيل المُنون. العبدُ يُقبل العتبة الشريفة التي تسر بتقبيلها القلوب، وتقر بتقريبها العيون. وتودّ لو اكتحلتْ بإثمد تُرابها الجُفون. ويصف شوقه إلى الخدمة التي تحقق في نعمها الآمال وتصدق في كرمها الظنون. ومواظبته على الطاعة التي هو وأسلافه عليها يحيون. وعليها يموتون وعليها يُبْعثُون.