رجعنا إلى ما كنا فيه من شأن النفس، فالموطئ إنما هو موضع القدم وخطوته، وكان إبليس يوم وطئ تلك التربة كافرا في علم الله مطيعا في الظاهر كما وصف الله، وكان من الكافرين ومن قوله: (اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) . فكما وجدنا لمقام إبراهيم عليه السلام من الكرامة والمنزلة ما جعله الله قبله لمن آمن، وأمرهم بأن يتخذوه مصلى وليس هو إلا أثر قدم في حجر فوقع لقدمه من الحرمة ما إن اتخذ موضعه وأثره قبله لخلقه لا تقبل الصلاة في الآفاق إلا به، فلم تقع له هذه الحرمة إلا أنه عدّ من القدم ولحقه به، كأنه هو القدم نفسه، والقدم قد زال عنه وأبلته أيدي اللامسين واختلاف الزائرين، فليس إلا رسم قد ذهبت عنه آثار الأصابع، فذلك لمقامي وقدمي وموطئي وآثري وخطواتي من المنزلة مني، أي أعدّه من نفسي وبعضي وعضوي، ومنه في حديث آدم عليه السلام حين أُهبط إلى الأرض، في أرض عند ما يلي مطلع الشمس فجال جميع الدنيا، فما كان تحت قدمه نالته رحمته وبركته فصار مدينة وما كان بين قدمه صار قرى، وما لم يصيبه قدمه صار مفاوز، ومن ذلك فضل أهل المدينة على أهل القرى، فكما نالت تلك التربة قدمه كذلك نالت شؤمه وكفره وكبره، وكما أضيف ذلك إلى آدم عليه السلام، كذلك أضاف عدو الله ذلك الشؤم إلى نفسه وذلك أنه أدعى أن الشؤم والكفر والعتو كان فيه قلما نالته التربة امتزج بها وصار كالشيء الواحد ومنه سمي الخضر خضرا، لأنه أيما مشى في الأرض نالت بركته ولطفه وطيبه فاخضرَّ ما حول قدميه، وأصل الخضرة من نور الجلالة، وقوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) أي كونوا على الصلح الذي صولحتم عليه، وهو الحلال والحرام خُيِّر أبوكم بين الحلال والحرام، وخُيِّر العدوّ، فاختار أبوكم الحلال واختار العدوّ الحرام والفحش، واصطلحا على ذلك واصطلحت ورثة إبليس على ذلك، فاصطلحوا نتم يا بني آدم على صلح أبيكم وما قد اختار لنفسه ولكم من الطيبات، وما قد أباح لكم من خلال، (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) ، أي لا تتبعوا نفوسكم الباطنة، فإنها خُلقت من خطوات الشيطان فإن نهمتها نهمة الشيطان وما اختاره من الحرام فهذا السّلم حصن لكم وكهف فادخلوا في حصنكم وكهفكم إذ أحزنكم أمر من العدوّ (فإنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكلون) ، فالسّلم حصن، والتوكل حرز وثيق وخندق قعير وبحر عميق.
وأما ما وصف في شأنه (وكان من الكافرين) ، فلما وطئها نالها من شؤمه وشؤم كفره وظلمته وتمرده واستكباره الذي ظهر منه يوم السجود، فصار بهذا المعنى كعضو منه فلما لعن صارت تلك التربة ملعونة حيث كانت، نالها ذلك السخط، فلما رمى إليه الأباطيل صارت نهمة إبليس فيها ومراده من الدنيا ومطلبه ومحبوبه ومسروره ومفرحه، ونالت تلك التربة في آدم ما نال صاحبها إذ كانت قد صارت كعضو منه، فدبّر إبليس عدوّ الله وقاس فوجدها في آدم عليه السلام قائمة بعينها فاستغنمها منه إذ وجد آدم عليه السلام مجبولا على نهمة نفسه، أي كأنه وجد مجبولا على عضو من أعضاء إبليس، فقال جسدي لا يعصيني، كيفما كان فقوي بها عدوّ اله وفرح بما نال من الفرصة.