فأما صفة النفس الباطنة، فغن جوهرها من أخس التراب وأدناه وأخبثة وذلك أنها من موضع موطئ إبليس ومرتكضه ومتخطاه وممشاه إذ كان فيها ملك ورئيس في زي الملائكة مع ذلك الملأ فأصابها شؤم كفره لمواطئه عليها أياما في دهره مع الشرك الذي كان فيه والكفر والتكبر إذ وصفه الله بالكفر وهو في لباس التوحيد فشهد عليه بالكفر فأبطل ما أظهر من دينه بما كان في باطنه وضميره من الجبلة عليه يوم خلقه فقال: (وكان من الكافرين) ، فلما خلق آدم من تراب وجهه جميع الأرض أسودها وأحمرها خبيثها وطيبها سهلها وجبلها امتزج التراب والموطئ والخطى بالأخرى فلما خلقه صار خلقة آدم عليه السلام على موطئه وخطاه وصار الموطئ أخبث وأردأ من الخطوه "وسنصفه في موضعه إن شاء الله" فصارت تلك التربة جوهر خلقة النفس، نفس آدم جبلة عليها ومنها، وصارت أس النفس وقاعدتها، فلما فرغ منها وضعه تحت العرش فمر عليه إبليس وهو في زي الملائكة. فقال لهم: أرأيتم أن أمركم الله بأمر أفتطيعونه! قالوا: نعم، قال: فأنا لا أطيعه!! وذلك أنه نظر في أصل خلقته فعرف أنه خلق من ذاك التراب فتهاون به، وقال إن أمرني أن أطيعه لم أطعمه وإن لم يُطعن استنفرت المجهود في استطاعته ونصبت الحرب بيني وبينه، قالت له الملائكة: ولِمَ؟ قال: لأنه خلق من تراب موضع قدمي وموطئ خطوتي وممشاي، فلي فيه وجهان: أما أحدهما فهل يسجد الأب لابنه، والسيد لعبده، فإنه مني بمنزلة الابن أو العبد إذ خلق من مرتكض رجلي وممشاي وما مسحت به قدمي منذ ألفي سنة.
أما الوجه الآخر فإن موطئ الواطئ وخطوته كبعض جسده، فلا بد لبعض الجسد من الطاعة لبعضه، ولا بد لبعض الجسد الأدنى والأقل من الطاعة لبعض الجسد الأعلى والأكبر، فقاس بهذه الأشياء أمر الله وخلقه، فأول من قاس اللعين أبعده الله.
فيم احتج؟ قيل له: ما الدليل على ما احتج إبليس وما بيانه، وبيان حججه، ما هو موجود مما قصده، قال: أرى احتجاجه في ذلك من قول الله تعالى: (فقبضت قبضة من أثر الرسول) ، أي كان تلك القبضة من موطئ فرس جبريل عليه السلام وكان على فرس الحياة، وإنما أخذ موضع حافره لما كان فيه من الحياة، فأينما طرح من تلك القبضة أحيا كل شيء، وهو في قصة السّامري يقول: فلو لم يكن ذلك التراب من الفرس لما كان يحيا منه كل ميت ومنه قوله: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) ، يقول: فإن الله يكتب للمؤمن وعلى الكافر ما قدم من خير أو شر وآثارهم؛ والآثار: أي ما تحت القدم، فيلحق الآثار بالأفعال، والآثار من الأجسام كما أن الأفعال من الأجسام، ومن قوله عز وجل: (ولا يطئون موطئا يغيض الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كُتب لهم به عمل صالح) ؛ كقول الله تعالى: نلحق، أي نجعل الموطئ من العمل فموضع الوطء، والموطئ من الجسد كبعضه، فكأنه يقول: لو لم يكن الموطئ من الوطئ كبعض الجسد لما جعل النيل والموطئ في الأجر سواء، فكما أن الوطء من الواطئ، كذلك موضع الوطء من الموطئ، فهذه صفة النفس الباطنة والظاهرة.