وأجمعها للشوارد وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به؛ بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته ناصعة وصورته الكاملة ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين وقراره المكين، لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلا، ولا الساكن يبغي عن منزله حولا، وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان.
هذا ما يتميز به القرآن الكريم؛ أنه في لغته عمومًا بهذه الصورة التي هي فوق طاقة البشر ويستدل الشيخ بشيء جميل على هذه المسألة؛ أننا لا نستطيع أن نقدر قيمة القرآن كما قدره هؤلاء الذين آمنوا به وهؤلاء الذين لم يؤمنوا به وكفروا به وجحدوا، فيقول الشيخ: أنت أحد اثنين؛ إما أنك تعرف لغة العرب معرفة وثيقة وتستطيع أن تحكم، وإما أنك جاهل بلغة العرب وأسرار كلامهم، فلا تستطيع أن تحكم؛ فإن كنت جاهلًا بلغة العرب يكفيك شهادة العربي الفصيح، فإن قلت: أقبل شهادة من عربي يؤمن بالقرآن نأتيك بشهادة من كفر بالقرآن:
هذا مثال ذكره الشيخ بقصة الوليد بن المغيرة، هذا الوليد!! ماذا يقول الوليد؟ عندما أتاه أبو جهل وعرض عليه أن يطعن في القرآن بعدما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول الوليد لأبي جهل: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر؛ لا برجزه ولا بقصيدِه ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا!! ووالله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة!! وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله!! وإنه ليعلو ولا يُعلى!! وإنه ليحطم ما تحته!!