ومنهم من قال: هي على الوَقْفِ، حتى يقوم دليل الحَظْر، أو الإباحة فحجة مَنْ قال: إِنَّها على الإباحة هو أنها لا يخلو أن يكون اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- خلقها لينتفع هو بها -تعالى- عن ذلك أو لننتفع نحن وهو بها، أو لننتفع نحن دونه -تعالى- أو خلقها لا لينتفع بها هو ولا نحن بها، فَخَلْقُهَا لينتفع هو بها محال؛ لأنه -عَزَّ وَجَلَّ- لا تجوز عليه المنافع ولا المضار وخلقها أيضًا له ولنا محال؛ لأن المنفعة والمضرة عليه لا تجوز، وخلقها لا لينتفع هو بها ولا نحن عبث عليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، فلم يبق إلا خلقها لننتفع نحن بها.
وإذا ثبت ذلك صارت هذه الدلالة تقوم مقام الإذن منه -تعالى- لنا في الانتفاع بها.
وأما مَن قال: هي عنده من الحَظْرِ في الأصل، فحجته أنه قد ثبت أن الأشياء كلها مِلْكٌ لمالك واحدٍ، وهو اللَّه سبحانه وتعالى، ولا يجوز الإقدام على ملك أحد إلا بإذنه؛ لأنه لا بد أن يكون في الإقدام عليها من غير إِذن منه ضرر في العاقبة، فوجب الوقف، ومن قال: هي على الوقف، فحجته تعارض المعنيين وتقابلهما العَقْلي في الحَظْرِ والإِباحة، فوجب الوقف، وطلب الدليل المميز، وألا يقدم أحد على أحد القَوْلَينِ إِلا بِحُجَّة، ولأن الحَظْر يقتضي حاظرًا، وأن الإباحة تقتضي مبيحًا، فوجب الوقف حتى يعلم ذلك، وعلى أن الكلام في هذه المسألة تكلف, لأنه لا يعقل الناس حالًا قبل الرسل والشرائع؛ لأن الرسل بعد آدم -عليه السلام- قد قررت الشرائع في جميع الأشياء فقد تقرر بالرسل عليهم السلام، واللَّه أعلم.
ليس عن مالك -رحمه اللَّه- في ذلك نص، ولكن يدل عليه أنه مذهبه, لأنه احتج في أشياء كثيرة سُئِلَ عنها، وقال: لم يفعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك، ولا الصحابة -رحمة اللَّه عليهم- وكذلك يقول: ما رأيت أحدًا فعله، وهذا يدل على أن السَّمع إِذا لم يرد بإيجاب شيء يجب وكل ما كان عليه من براءة الذمة.
والأصل في ذلك أن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- قد احتجّ على عباده في العبادات بالعقل والسمع، فما كان له حكم في العقل، ولم يرد سمع بخلافه، فأمره موقوف على ورود السمع، وإن ورد مثل ما كان في العقل كان مؤكدًا، وإن ورد بخلاف نقل الأمر