الأذى في مكة فلا يطيقه ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة. فيندفع يطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية عَنْهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ .. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا» ..
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس: «وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ» ... الآيات ... ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها.
وقد كدنا نرجح هذا الرأي لأن ملامح النفاق واضحة، فيما تصفه هذه المجموعات كلها. وصدور هذه الأعمال وهذه الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم، أمر أقرب إلى طبيعتهم، وإلى سوابقهم كذلك. وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا ..
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين: (قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ... الآيات) هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثا عن المنافقين - وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده - وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين - ضعاف الإيمان غير منافقين - والضعف قريب الملامح من النفاق - وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين، المندسين في الصف المسلم. وربما كانت كلها وصفا للمنافقين عامة وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال. والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم ..