وهناك فارق بين المحدِّث وكاتب السيرة، كالفارق بين المحدث والفقيه، كالفارق بين المنقِّب عن الآثار والمؤرخ. فالمنقب عن الآثار مهمته: أن يعثر على الأثر وأن يُقدِّم دراسة عنه، ولكن مهمة المؤرخ: أن يستفيد من هذا الأثر وغيره ليقدم صورة متكاملة عن حدث أو مرحلة، أو يقدم نظرية متكاملة في مسرى الأمور. والفارق بين المحدث والفقيه: أن المحدث مهمته: جمع الروايات وتحقيقها، وهو لا يدخل في حسابه ما زاد على ذلك من التتبع للنصوص القرآنية، أو البحث في مَحِلِّ هذه الروايات بالنسبة لبناء الشريعة، أما الفقيه فمهمته: رؤية كل ما ورد من كتاب أو سنة في موضوع ما، وإذا كانت هناك مسائل تحتاج إلى جواب وليس في النصوص الصحيحة والقرآن جواب واضح عليها فعليه أن يبحث عن الجواب من خلال قياس أو إجماع أو روايات ضعيفة يسندها قياس أو استئناس بروح الشريعة إلى غير ذلك، قلْ مثل هذا في الفارق بين المحدث وكاتب السيرة، فكاتب السيرة محدث وزيادة، فهو من حيثية كونه محدثاً عليه أن يروي وأن يجمع الروايات وأن يمحصها وأن ينتقد الرواة وأن يقارن بين المرويات، ولكنه ككاتب سيرة له مهمة زائدة: أن ينظر في هذه الروايات على ضوء النصوص القرآنية، وما كان له أصل صحيح وليس فيه تفصيلات فعليه أن يبحث عن هذه التفصيلات، وإذا كان هناك تعارض بين الروايات فعليه أن يرجح، وإذا كانت هناك فجوة في تسلسل الأحداث فعليه أني بحث ليملأها، وقد يملؤها من خلال استقراء أو استنتاج أو من خلال روايات ضعيفة، وأحياناً من خلال روايات وصلته دون إسناد، فهو من هذه الحيثية محقق ومؤرخ بل قد يكون مجتهداً.
وكما يختلف الفقهاء في النهاية فقد يختلف محققو السيرة في النهاية. وفي حالة الاتفاق أو الاختلاف فهناك صور لا يترتب عليها عمل، سواء اتفقوا أو اختلفوا كالقضايا التاريخية البحتة، فمثلاً: م هي مدة فترة الوحي التي حدثت بين نزول قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ..} من سورة العلق، وبين نزول سورة (المدثر)؟ لا يترتب على المعرفة التفصيلية ههنا عمل، وإن كان بعض علماء التربية قد يستفيد منها نوع فائدة.
وهناك قضايا يترتب عليها عمل، ولاتفاق المحققين أو اختلافهم تأثير، فمثلاً: المعاهدات التي عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول استقراره في المدينة مع غير المسلمين، هذه