أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص، وذلك مروي عن ابن عباس وعائشة وابن أبي أوفى - رضي الله عنهم -، وحديث سعد بن أبي وقاص المتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» .
فاقتصر - صلى الله عليه وسلم - في الوصية على ما جعله خارجًا مخرج الجواز لا مخرج الإيجاب، ثم بين أن غنى الورثة بعده أولى من فقرهم إلى الصدقة.
ولأن الوصية لو وجبت لأجبر عليها، ولأخذت من ماله عند موته إن امتنع منها كالديون والزكوات، ولأن الوصايا عطايا، فأشبهت الهبات، ومما يدل على ذلك أيضًا حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه» .
فتفويض الأمر إلى إرادة الموصي يدل على عدم الوجوب بخلاف من عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوصي به، كالدين والوديعة والعارية والزكاة ونحو ذلك، فترجح قول الجمهور: أن الوصية غير واجبة بعينها، وإنما الواجب بعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير سواء كانت بتنجيز أو وصية.
ومحل وجوب الوصية إذا كان عاجزًا عن تنجيزها، ولم يعلل بذلك غيره ممن يثبت الحق بشهادته، وقالوا: لا يستحب أن يكتب جميع الأشياء المحقرة، ولا ما جرت العادة بالخروج منه، والوفاء به من قرب والذي تطمئن إليه النفس أنه لا يترك شيئًا وإن كان محقرًا؛ لأن الإنسان سيحاسب على الدقيق والجليل، قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، وقال: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ} والله - سبحانه وتعالى - أعلم.