البيان العربي يروي نفسه من روائعه، ويستظهر من غرره، وقد سمعت من أهله وخلصائه الذين اندسست فيهم للوقوف على ما خفي من سيرته، فرووا أنه عكف ليلة على كتاب الأغاني لأبي الفرج، وكان من عشاقه المتوفرين على قراءته فظل مستغرقا في الاطلاع يضيء له مصباح نفط، ولم يرعه إلا أن والدته دخلت عليه، وقالت له: "أطفئ المصباح إذ لا حاجة لك به فقد طلعت الشمس".
وكان من فنونه بالأدب أن عزف به في كثير من الأحيان عن الدروس في الأزهر أيام الطلب، وشغف بالتفرغ للكتابة الأدبية يروي بها ظمأه، وأقبل على الصحف الأدبية يكتب لها، وهو حدث كما افتتن في صباه بحب الفن وأغرم بأهله، رويت عن أحد خلطائه الأدباء أنه لم يفته مجلس من مجالس الطرب التي كان يقيمها المطربون في شبابه من أمثال: "عبده الحمولي، ويوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، وغيرهم"، ومع أنه من هذه البيئة الدينية التي يلزمها مجانبة اللهو واللعب كان يحتال برشوة يقدمها للخدم للخلاص من القيود، فلا يزال يجول في القاهرة، ويتحسس مواقع السمر ومواطن الطرب حتى يعود مع الفجر، وقد أثر في نفسه طول ما غنمه من أوقات اللذة والسرور، وما استمتع به من الفن والتطريب، فزاد في إحساسه وهذب مشاعره، على ما نشأ عليه من رقة النفس وإرهاف الحس.
وكان البشري حاد الذكاء، حاضر البديهة، صفي الذهن، لماح الخاطر ذواقا إلى أبعد الحدود، قوي الحس إلى درجة ناردة حقا لا يكاد يمر به شيء إلا التقطه التقاطا، ورسمه في نفسه رسما يخالطه مخالطة حتى يصبح كأنه جزء منه1.
وكان سريع التأثر أيضا حتى لقد عرف بذلك بين أصدقائه، فكانوا يتقون مواطن تأثره، ويحسبون لها حسابا، وإذا تأثرا بشيء لم يكد يطيق