ولم تكن مصاحبة آلام الناس وأحزانهم النهاية في نشاط زرادشت، بل إنها كانت البداية؛ حيث أخذ يتساءل ويبحث عن مصدر الشرور والمتاعب، ويعجب من عدم سيطرة الخير على كل شيء، وقرر هجر زوجته والانقطاع للتأمل والبحث فوق جبل سابلا.
وذات يومٍ أدرك من تأمله في الليل والنهار أن العالم يضم الخير والشر كما يضم اليوم الليل والنهار، هكذا في صورة مستمرة من غير طغيان أحدهما على الآخر، ومع اكتشاف لهذه الحقيقة سأل نفسه: لماذا خلق الخير والشر معًا؟! ولم يدم به التساؤل طويلًا، فلقد أتاه كبير الملائكة، وقاده إلى الله تعالى أهورامزدا إله النور الأعظم، الذي يحيط به ضياء عظيم؛ حيث تلقى كلمات الحق والحقيقة وتعلم أسرار الوحي المقدسة، واستمع إلهه للنبوة.
ونزل زرادشت للجبل حاملًا رسالة الله للإيرانيين، ومعه كتاب الوحي، لكنه قوبل بالإعراض والصدود من قومه، ومن عشيرته الأقربين، وقضى في دعوته عشر سنوات متحملًا الأهوال صابرًا على الأذى محتسبًا ذلك عند أهورامزدا، الذي ظل يؤيده ويقوِّي عزيمته، ويثبّت عقيدته بالوحي المتوالي، ويقال: إن الله كلامه شفاهة وظهر له كبار الملائكة، وبعد أن جاوز عمره الأربعين آمن أخوه بدعوته، وأخبره بأنه يدعوه بأفكار صعبة لا يفهمها إلا المتعلمون والخاصة، فبدأ زرادشت لساعته يدعو المتعلمين والخاصة مبتدئًا بالملك كشتسيب والملكة والأمراء المقيمين في بلخ، وعقد الملك مناظرة بين حاشيته وبين زرادشت حتى تبين له صدق الدعوة، فآمن بالزرادشت واتبعه.
لكن الكهنة دبّروا مؤامرة كاذبة لزرادشت أدت بالملك أن يسجنه بتهمة السحر والشعوذة، وحدث أن جواد الملك أصيب بمرض غريب أدى إلى تقلص قوائمه