من هذا ترى أن الكنائس كلها تعتقد التثليث وهذا هو موضع اتفاق، ولكن موضع الخلاف بينها هو العنصر الإلهي في المسيح، أهو للجسد الذي تكون من روح القدس ومن مريم العذراء، الذي باختلاطه بعنصر إلهي صار طبيعة واحدة ومشيئة واحدة، أم أن الأقنوم الثاني له طبيعتان ومشيئتان.
ومن هذا كله يفهم أن المسيحيين على اختلافهم يعتقدون أن في اللاهوت ثلاثة يعبدون، وعباراتهم تفيد بمقتضاها أنهم متغايرون، وإن اتحدوا في الجوهر والقدم والصفات والتشابه بينهم كامل، ولكن كتابهم يحاولون أن يجعلوهم جميعًا أقانيم لشيء واحد، وبعبارة صحيحة: يحاولون الجمع بين التثليث والوحدانية، ولكن عند هذه المحاولة تستغلق فكرة التثليث وتصير بعيدة عن التصور، كما هي في ذاتها مستحيلة التصديق، وإن كُتابهم أنفسهم يعتقدون أنها بعيدة التصور عند هذه المحاولة؛ لأن من أصعب الأشياء الجمع بين الوحدانية والتثليث.
فنرى صاحب رسالة (الأصول والفروع) بعد بيان عقيدة التثليث يقول: "قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا، ونرجو أن نفهمه فهمًا أكثر جلاء في المستقبل، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السموات وما في الأرض، وأما في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه كفاية".
أي أن عقيدة التثليث لا يمكن أن تنكشف للنفس على وجهها، إلا يوم تتجلى كل الأشياء لها يوم القيامة، وذلك حق، فإنهم لا يعلمون حقيقتها إلا يوم يحاسبهم الله عليها، ويومها يعلمون كذبهم ويأخذون جزاءهم، كما قال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (النحل: 39).