ذلك أن من الممكن جدًّا أن يكون "موليير" على سبيل المثال قد سمع ببخلاء الجاحظ بطريقة أو بأخرى، حين ألف مسرحيته الشهيرة "البخيل"، وأن يكون "لامارتين" على علم بطريقة أو بأخرى بقصيدة المتنبي أو البحتري عن البحيرة، كأن يكون قد سمعها أو سمع أبياتًا منها مترجمة إلى الفرنسية ولو شفويًّا، أو على الأقل سمع بموضوعها أو أسلوبها الفني مجرد سماع من أحد المستشرقين أو العرب، وأن هذا أحد البواعث التي دفعته إلى نظم قصيدته فيها، وبخاصة أنه كان مفتونًا بالشرق العربي، وزار سوريا وفلسطين ولبنان وسجل هذه الرحلة في كتاب من أربعة أجزاء هو "فوياج أونريو"، وتمنى لو بقي في بلاد الأرز -أي: لبنان- طول حياته، بل لقد قيل: إنه ذو أصول عربية، وقد يكون تأثر في نظمه تلك القصيدة بشاعر آخر فرنسي، أو غير فرنسي كان قد تأثر بدوره بإحدى القصيدتين العربيتين، أو بهما معًا.
ربما كان تأثير المتنبي أو البحتري سلبيًّا بمعنى أن الشاعر الفرنسي لم يستحسن الطريقة التي تناول بها الشاعر العربي موضوعه، أو بعض صوره الخيالية أو السياق الذي نظم فيه عمله، أو الجو النفسي الذي سيطر عليه، أو الغرض الذي نظم قصيدته من أجله إلى آخره.
تُرى هل كان هناك قبل "آسيون بلاسيوس"، بل إلى ما بعد وفاة ذلك المستشرق الأسباني بضعة أعوام، مَن كان يعرف أن قصة المعراج قد ترجمت إلى عدة لغات أوروبية منها اللاتينية قبل أن يكتب الدانتي كوميدياه الإلهية؟ لقد تعرض "بلاسيوس" لهجوم شديد ومعارضة عنيفة، عندما طلع على الناس بأن "دانتي" قد تأثر بتلك القصة إلى أن اكتشف أحد المستشرقين بعد رحيله بسنوات خمس لا غير أن تلك القصة قد ترجمت فعلًا قبل وضع "دانتي" عمله المذكور، مما يؤكد أنه قد قرأها قبل إبداعه لذلك العمل، ولنفترض أننا كنا موقنين تمام الإيقان أنه لم تكن هناك قط مثل تلك العلاقة، ولو