النظم في لغز تعمدًا، كما قلنا، أما في العصر الحديث فحسبما سبق القول أصبح الغموض عند فريق من الأدباء غرضًا يقصد قصدًا كأنه قيمة في ذاته، وذلك بتأثير بعض المذاهب الأدبية التي أفرزها تاريخ الآداب الغربية، وتأثرنا نحن بها تلك المذاهب، التي يرجعها المرحوم أنور الجندي إلى طبيعة البلاد الغربية ذات الجبال والغيوب والعواصف، والليل البهيم المرتبط بالأساطير والرمزية، على عكس طبيعة بلاد العرب، التي ينتشر فيها النور والشمس والضوء، وينكشف فيها الأفق تمامًا، ومن ثم عجزت الأساطير والرمزيات وأدب الظلال أن تجد لها مكانًا عندنا طبقًا لما يقول.
أما الفن القصصي وكان مزدهرًا في الأدب العربي على مدار تاريخه الطويل، فلم تقم حوله حركة نقدية، كالتي قامت حول الشعر بل ليس هناك فيما نعرف كتاب واحد مخصص للنقد القصصي، وكل ما يمكن أن نخرج به في هذا المجال لا يعدو شذرات، ونذرات عارضة هنا وهناك، إن العرب القدماء لشديد الأسف لم يهتموا بالتقعيد لفن القصص، كما صنعوا مع الشعر والرسائل والخطب رغم أنهم أبدعوا قصصًا كثيرًا ومتنوعًا رائعًا، ولسنا ندري السبب في أن الجاحظ أو أبا هلال العسكري أو قدامة أو ابن الأثير أو الصفدي أو أحدًا من أدباء المقامة، لم يحاول أن يقنن لنا المواصفات والقواعد التي تحكم ذلك الفن مثلًا، لقد كانوا يعرفون الفن القصصي من قبل الإسلام، فضلًا عن أنهم ترجموا بعد الإسلام كثيرًا من القصص الأجنبي من الفرس والهند مثلًا، إلى جانب ما أبدعته يراعاتهم إبداعًا، ليس ذلك فقط، فقد رأيناهم يعجبون بالمقامات وغيرها من ألوان هذا الفن، إلا أن ما كتبوه في باب الإعجاب لا يزيد على العبارات الانطباعية التي تخلو من التقعيد والتحديد والتفصيل.