وفيما يخص تقليد القاضي المذكور بمقامات الحريري ثمة كتاب للدكتور بديع جمعة عنوانه (دراسات في الأدب المقارن) تناول فصل منه هذه المسألة بشيء من التفصيل، وهو يبدأ بتعريف المقامة محاولًا الرجوع بهذا الفن العربي الأصيل إلى أول من ابتدعه من المؤلفين العرب، والمقامة في بداياتها الأولى حسبما يقول: هي فن أدبي يقوم عادة على حكاية من حكايات الشطارة والاستجداء ذات بطل واحد ينتقل من مكان لمكان وموقف إلى آخر مغيّرًا هيئته في كل مرة متخذا الكدية -أي الشحاذة- وسيلة لكسب ما يقيم حياته، إلى أن تنهي الحكاية بانكشاف حقيقة حاله وافتضاح أساليب مكره وخداعه التي يلجأ إليها لتحصيل مطعمه ومشربه، كل ذلك في لغة بديعية مفعمة بالفكاهة والتهكم والحرص على متانة الأسلوب، وإظهار البراعة اللغوية المتمثلة في سعة المعجم اللفظي وكثرة التسجيع والجناس والتوازن والتوريات وغير ذلك من ألوان المحسنات المعقدة، ولزوم ما لا يلزم مع حلاوة التصوير وإبراز بعض الأوضاع الاجتماعية، وتدبير المآزق للبطل، ثم إخراجه منها بذكاء ولوذعية، ثم تطور ذلك الفن ودخله التحويل في الموضوعات والأهداف، فاتسع لكل شيء حتى للوعظ الديني والتوجيهات الخلقية ... إلى آخره.

وبلغ من اتساع انتشار المقامات واهتمام الكُتاب بها أن أحصى بعض الدارسين عدد الذين مارسوا تأليفها فوجدهم تجاوزوا الثمانين مؤلِّفا، بدءًا من بديع الزمان الهمداني في القرن الرابع الهجري وانتهاء بنصيف اليازجي في القرن التاسع عشر الميلادي.

أما في الأدب الفارسي فلم يمارسها إلا أديب واحد وهو القاضي حميد الدين من أهل القرن السادس الهجري الذي أقر بأنه ليس إلا تلميذا من تلامذة بديع الزمان فكفى الباحثين مؤنة التدليل على أنه إنما استقاها من العربية وأدبها، وإن كان

طور بواسطة نورين ميديا © 2015