والرغبة بالتميز، والتسيد، وإيمان كل فرد أو فريق بأنه أفضل من غيره، كذلك لا ينبغي أن ننسى عامل البطء الشديد في وسائل المواصلات قبل العصر الحديث، مما كان يصعب جدًّا جدًّا قيام إحساس بالعالمية في ظله، ومن هنا فما كان أسهله بل ما أسهل الآن أيضًا أن تنشأ العداوات، وتشتعل الحروب وينسى الناس في غمرة هذا كلهم أصلًا واحدًا، وما يجب أن يسود بينهم من تفاهم وحب ومساواة وتعاون، وشعور بالأصل الواحد والمصير المشترك، رغم اختلاف الأوطان والأعراق والأديان والثقافات.
وعلى هذا، فإنني لا أستطيع أن أشاطر الدكتور الخطيب القول: بأنه على المستوى الديني والثقافي والفلسفي كان العالم القديم وحتى مطالع العصر الحديث عالمي الأفق إنساني الوجدان، ذلك أن الكلام هنا قد انتقل من ميدان الفكرة إلى ميدان الواقع، والواقع لم يكن بهذا الإشراق الذي توحي به العبارة، بل كانت هناك العداوات والحروب الشرسة الفتاكة، التي يجتهد فيها كل طرف لسحق الطرف الآخر، ألا يتذكر الكاتب الحروب الصليبية مثلًا التي أسال فيها الفرنجة دماء عشرات الآلاف من المسلمين، لا لشيء سوى أنهم يدينون بدين غير الدين الذي يدينون هم به؟ ألا يتذكر ما صنعه الإسبان بمسلمي الأندلس من قتل وسجن ونفي وتشريد، وإخراج من الوطن جراء اختلاف الدين؟ بل ألا يتذكر الحروب بين دول أوربا نفسها بسبب اختلاف المذهب الديني رغم اجتماعها على النصرانية دينًا القارة كلها؟
لا، بل إن هذه المشاعر التفريقية لا تزال لها السيادة في العلاقات بين الدول والشعوب، رغم انتشار أفكار العالمية وتزايد الشعور بأن الأرض قد سارت قرية واحدة، بسبب تقدم وسائل المواصلات المادية والفكرية وسرعتها الرهيبة.