بين أضواء السماء وانعكاسها في الموج؛ كأنها فوق أرض ذات نجوم، فإذا رأيت قبابها الزرق كأنها صبغتها السماء، وآلاف الأهلة كما تبدوا كأنها تستمد من أشعة قبل الليل، حسبت أنها المدينة التي شيدت أرواح الليل قصورها الصامتة في الهواء، وتميز العين أبراجها بزواياها المرسومة ومنازلها ذات السطوح المستوية وسهام مساجدها ومناراتها بيضاء تنطلق مسلاتها كقلاع من العاج مزودة بأسنة الرماح. وعلى القصر العتيق المتميز بجدرانه مائة قبة من القصدير تتلألأ في الظلام كأنها خوذات العمالقة.
ويشير "تزل جوتيه" بالنيل ويهون من شأن نهر السين حين يقارنه به في حوار له بين المسلتين مسلة باريس وبمسلة الأقصر فيقول على لسان مسلة باريس المصرية: السين أشبه بميذاب شارع أسود اللون نهر دنس تألفه عدة جداول يدنس قدمي التي كان يقبلها في فيضاناته، أما النيل فإنه أبو المياه النيل ذلك العملاق ذو اللحية البيضاء المتوج باللوتس والخيزران، وقد شاهدت نهر التيبس ونهر السين في لندن وباريس فوجدت أنهما أقل شأنًا من النيل بكثير من المراحل، وأنهما ليسا صافيين كما كنت أتصورهما بل مياههما داكنة، ولا أدري لماذا، وجلست على شط كل من هذين النهرين لم أستمتع مثل استمتاعي بالنيل.
ومن هنا فإنني لا أجد فيما كتب "فول جوتيه" عن النيل وعن مقارنته بنهر السين شيئًا غريبًا؛ لأنني لاحظته بنفسي، وهذه الصور كلها تختلط فيها الحقائق بالمزاعم ودلالتها على مشاعر قائلها أحق بالتقويم، ولكن صدى هذه الصور الأدبي في نفوس الشعب عظيم، وفعلًا؛ لأن هؤلاء الرحالة وألئك الكتاب هم مسئولون عن الصور التي ترتسم بأذهان الشعوب عن الشعوب والأمم الأخرى.
ومهما كان في الصور الأدبية في القرن التاسع عشر من جانب "رومانتيكي" فهي على أية حال أكمل من نظيرتها في العصور السابقة عليها في الأدب الفرنسي.