وفتح عينيه طول الوقت، وقبض على زمام اللغتين اللتين يعمل بينهما، ومهما راجع ونقح، ذلك أن المترجم الأدبي وهو الذي يهمنا هنا، إنما يحاول الدخول إلى عقل إنسان آخر، واقتناص خواطره وانفعالاته وأفكاره ودقائق معانيه، وأنَّى له ذلك، والسياق الذي يعمل هو فيه يختف عن السياق الذي أبدع فيه صاحب النص نصه! والخلفية الثقافية والفنية والأدبية التي ينتمي إليها المبدع تختلف عن خلفيته هو، والظروف الشخصية تختلف في حالته عن حالة من يترجم منه.
كما أن الأديب لا يقول في إبداعه كل شيء، ولا يكون واضحًا في ذهنه كل شيء، بل تظل هناك زوايا وخبايا، ومناطق مظلمة أو معتمة أو مغبشة أو تغشيها الظلال على الأقل، ومعان وأحاسيس رواغة تستعصي على القنص، وأقصى ما يمكنه عمله إزاءها هو أن يشير ويومئ، فإذا أضفنا إلى هذا أن العمل الأدبي ليس كلمات وجملًا ناجزة فحسب، بل ثغرات ومساحات متروكة أيضًا، وأنه يقوم على الإيجاز والتكثيف والتقديم، والتأخير والمجازات والاستعارات والكنايات والتوريات، وأن فيه كثيرًا من العبارات والصور والتراكيب والألفاظ والألوان البديعية، والإيحاءات التي لا تقابلها عبارات وصور وتراكيب وألفاظ، وإيحاءات في اللغة المنقول إليه، أو على الأقل لا تقابلها مقابلة مباشرة، علاوة على أن إشاعات كل لفظة، والتاريخ التي تحمله على ظهرها، والتقاطعات والعلاقات اللفظية التي ترتبط بها تختلف عن إشعاعات اللفظة التي تقابلها على الناحية الأخرى، والتاريخ الذي تحمله على ظهرها والتقاطعات والعلاقات التي تربطها بغيرها من الألفاظ والعبارات.
وإذا عرفنا فوق ذلك أن مبدعه كثيرًا ما يقصد الغموض قصدًا إن لم ينح نحو الاستغلاق نحوًا، تلذذًا منه أو فلسفة أو تفلسفًا، وأن الشعر إلى جانب هذا كله