لقلبي وأشد على نفسي، ثم لطمت وجهها وشقت جيبها، وخرّت مغشيًّا عليها؛ فقام إليها الحسين فصب الماء على وجهها، وقال: اتق الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله أبي خير مني وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة.
فعزاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أخية، إني أقسم عليك لا تشقي علي جيبًا ولا تخمشي علي وجهًا، ولا تدعي علي بالويل والثبور إن أنا هلكت، ثم خرج لأصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن ينشروا الأطناب بعضها في بعض، وكونوا بين يدي البيوت، فيستقبلون القوم من وجه واحد، والبيوت على أيمانهم وعن شمائلهم ومن ورائهم. فلما أمسوا قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون، ويتضرعون ويدعون فلما صلى عمر بن سعد الغداة يوم السبت، خرج فيمن معه من الناس وعبا الحسين أصحابه، وصلى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلًا فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مطهر في ميسرتهم، وأعطى رايته للعباس أخاه، وجعل البيوت في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب فألقي في مكان منخفض من ورائهم كأنه ساقية، عملوه بساعة من الليل، لئلا يؤتوا من ورائهم، وأضرم نارًا تمنعهم ذلك".
وقد بلغ الفن في تاريخ الجبرتي مدى بعيدًا رغم ما يعتور التعبير في أحيان من ضعف، إلا أنّ التصوير الحي والتلقائية العجيبة، والتفاصيل اليومية، والحوارات الواقعية الدقيقة تغطي على هذا كله، وتنبض الأسلوب بالفتنة الساحرة. على أنّ الأمر في التقاء التاريخ بالأدب لا يقف عند هذا الحد، بل هناك من اعتمدوا في كتابة التاريخ السجع والجناس وغيره من محسنات البديع، وهذا مُلاحظ على