واستمرارًا مع موضوع الصياغة الأدبية للتاريخ، نقول: إننا في (السيرة النبوية) لابن إسحاق مثلًا نجد كثيرًا من الأشعار توشي الأحداث، وتجري على ألسنة الشخصيات، كما نَجِدُ كثيرًا من التفصيلات والحوارات الواقعية المفعمة بالحيوية، سواء تعلق الأمر بالناس العاديين، أو بالزعماء والقادة. وذلك كي لا يقال: إنّ كتابة التاريخ قديمًا كانت تعنى دائمًا بالسادة ملوك ووزراء وأشباههم ليس إلا، فضلًا عن أن الأسلوب الذي صيغ به هذا كله هو أسلوب أدبي، وإن غلبت عليه البساطة في كثير من كتب السير.
ونضيف إلى هذا: أن سيرة ابن هشام بالذات، وهي كما نَعرف سيرة ابن إسحاق ذاتها معلقًا عليها، ومتصرفا فيها بعض التصرف، هذه السيرة تمتلئ بالأحكام النقدية التمحيصية لما ورد فيها من أشعار، إذ لا يكتفي ابن هشام بإيراد ما أورده ابن إسحاق من النصوص الشعرية، بل عادة ما يُعقب على ما يثبته منها بأنه لم يثبته كاملًا، بل حذف منه أشياء للسبب الفلاني أو العلاني، أو أن النص غير موثوق عند العلماء بالشعر. وقد يحذف النص كله ويشير إلى الحذف معقبا عليه بالسبب الذي حدا به إلى ذلك، وهكذا. أي: أنّ سيرة ابن هشام ليست مُنْبَتّة الصِّلة بالأدب والنقد كما هو واضح، وهذا مثالٌ على ما نقول، وهو من حديث زمزم وحفر عبد المطلب إياها: "ثم ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب؛ فأقامها للناس، وأقام لقومِهِ ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم.
ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحِجْر إذ أُتي فأُمِر بحفر زمزم، قال عبد المطلب: إنِّي لنَائِمٌ في الحِجْر إذ أتاني آت؛ فقال: احفر طيبة، قلت: وما طيبة؟