وفي هذا المجال تصير اللغة الشعرية رمزًا لا تعبيرًا، وعملية إيحاء لشتى الصور والأخيلة، وفي منطقة اللاشعور لا تهتم بالعالم الخارجي إلا بمقدار ما تتمثل وتتخذه منافذ للخلجات النفسية الدقيقة التي يصعب التعبير عنها.

ولا بد لتكامل عملية الإيحاء للصور من اللجوء إلى ما يسمى بـ"تراسل الحواس" أي: أن تستعير حاسة وظيفة أو صفة حاسة أخرى؛ فتعطي المسموعات ألوانًا والمشمومات أنغامًا، وتصبح المرئيات عاطرة يشم الأنف من الورد الأصفر نغمًا حزينًا، ومن هذا القبيل قول الشاعر علي الجارم:

أسوان تعرفه إذا اختلط الدجى ... بالنبرة السوداء في أناته

فقد وصف النبرة وهي صوت بالسواد وهو لون، ولا شك أن وصف النبرة بالسواد في هذا المقام، أقدر على الإيحاء بالجو النفسي الذي يحسه الشاعر، ويريد أن ينقله إلينا، ولا شك أن تقارب الحواس لصفاتها فيما بينها، يُساعد كثيرًا على نقل الأثر النفسي.

وممن دعا إلى الاستعانة بتراسل الحواس بكمال التعبير والصور الشاعر الفرنسي "بودلير" في قصيدته التي عنوانها "تراسل" كما قلت من قبل وفيها يقول: "الطبيعة ذات دعائم حية، وأحيانًا تنطق هذه الدعائم ولكنها لا تفصح، ويجوس المرء منها في غابات من رموز؛ تلحظه بنظراته أليفة، وتتجاوب الروائح والألوان والأصوات كأنها أصداء طويلة مختلطة، آتية من بعيد؛ لتألف وحدة عميقة المعنى، مظلمة الأرجاء، رحيبة كالليل أو كالضوء".

فتبادل الحواس لصفاتها يجعل من العالم الواقعي مثاليًّا صوريًّا تتمازج فيه الخيالات مع الحقائق، والرمزيون بالإضافة إلى هذا يمقتون في الصورة الأدبية اللهجة البيانية الخطابية بأساليبها الواضحة المشرقة، ذات المعنى الظاهر؛ لأنهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015