إنّ الرجل إنما يقبس من نار قلبه وواقع بيته، وهو إن فاتته فحولة الشعر؛ فلم يفوته الكثير، لأنّ هذا اللون من الشعر لا يصلح له إلا هذا الأسلوب البسيط العجيب في صدقه وصراحته وواقعيته وفكاهيته وشعبيته، وحُسن تصويره ودفء تعبيره، وماذا يريد الواحد منا في مثل هذا الموقف أكثر من هذا؟! ولا ينبغي أن نغفل الألفاظ العامية المصرية الموحية التي يستعملها البوصيري، ومازلنا نستعملها نحن أيضًا حتى الآن كقوله: "يا عره" أي: يا من تجلبين الشماتة والاحتقار لنفسك وأهلك، و"الفتره" وهي ألطاف العيد الصغير من تمر وزبيب وكعك، و"سخره" أي بلا مقابل و"بكره" أي غدًا و"صبرها مني على العشره" أي رضاها بواقع الحال البائس إخلاصًا لزوجها وحرصًا منها على بيتها أن يهدم.

ولنقرأ أيضًا تلك الحكاية المأخوذة في ألف ليلة وليلة، والتي تُقَدّم لنا بعض المشاهد الواقعية من المجتمع البغدادي في العصور القديمة، مصورة بلغة تخلو تمام من أي تأنق أو تكلف؛ لغة بسيطة تقترب من اللهجة العامية، وإن اتبعت إلى حد معقول قواعد النحو والصرف، ولكن في أيسر صورها وأقلها مئونة، وهي حكاية أحمد الدنف وحسن شومان، مع الدليلة المحتالة وبنتها زينب النصابة:

"يحكى أيها الملك السعيد، أنه كان في زمن هارون الرشيد رجل يسمى أحمد الدنف، وآخر يسمى حسن شومان، وكانا صاحبي مكر وحيل، ولهما أفعال عجيبة؛ فبسبب ذلك خلع الخليفة على أحمد الدنف خلعة؛ وجعله مقدم الميمنة، وخلع على حسن شومان خلعة وجعله مقدم الميسرة، وجعل لكل منهما شامكية في كل شهر ألف دينار، وكان لكل منهما أربعون رجلًا من تحت يده، وكان مكتوبًا على أحمد الدنف در كل بر فنزل أحمد الدنف ومعه حسن شومان، والذين من تحت أيديهما راكبين والأمير خالد الوالي بصحبتهم،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015