الآداب الأوربية على ما هو معروف؛ فمن السهل على من لديهم معرفة بتاريخ الشعر العربي القديم أن يمد يده إلى إلى أي عصر أدبي تقريبًا، بدأ من العصر الجاهلي ذاته؛ فيقتطف بكل سهولة باقة من الشعر الفواح بعبق الرومانسية.
أليست الرومانسية في جانب من جوانبها ثورة على العقل وسلطانه، وعلى الأصول والقواعد السائدة في الكلاسيكية، والاجتهاد في تقريبها ومحاكاتها، أليس الأدب الكلاسيكي هو أدب العقل والصنعة الماهرة، وجمال الشكل، والمواضيع الإنسانية العامة، واتباع الأصول الفنية القديمة؛ فجاءت الرومانسية لتشيد بأدب العاطفة والحزن والألم والخيال، والتمرد الوجداني، والفرار من الواقع، والتخلص من استعباد الأصول التقليدية للأدب؛ ألم يمرُّ بنا قبل قليل أنّ الفنانين والأدباء قد أظهروا على مر العصور اتجاهات رومانسية؛ رغم أن مصطلح حركة الرومانسية يشير عادة إلى الفترة التي بدأت في أوربا من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
فلنأخُذ مثلًا قصيدة "عبد يغوث" الذي نظمها وقد وقع أسيرًا في يد أعداء قبيلته في الجاهلية فقيدوه، وشدوا لسانه بلسعة كي لا يقول شعرًا في هجائهم فيفضحهم بين القبائل، وأصروا على أن يقتلوه بفارس من فرسانهم سقط في أحدى المعارك، التي دارت رحاها بينهم وبين قبيلة الشاعر الذي كان قائد قومه، أو أحد كبار قادتهم.
ففي هذه القصيدة يسود جو من الأسى والألم، وترفرف راية الموت السوداء؛ وتنثان ذكريات على الشاعر حزينة تلذع قلبه تلذيعًا، وبخاصة بعد ما تبين له أنه لا فائدة ترجى من المفاوضات التي حاول أن يديرها بينه وبينهم، عارضًا فيها دفع ما يريدون من دية؛ حتى لو استغرقت ماله كله وتركته حريبًا -أي: فقيرًا فقرًا مضجعًا لا يملك شروى نقير؛ فكانت أن ذهبت جهوده في تلك المفاوضات عبثًا.