ويؤكد الباحث الإسباني "إيكناثيو فيراندو" عن حق أن المقامات ليست قالب جميل بدون أي مضمون، كما أدعى بعض الباحثين في الماضي، وما يزالون في الوقت الحاضر، ولدينا قبل هذا بزمن طويل صلاح الدين الصفدي، وله شهادة مهمة في كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) يحسن إيرادها هنا، إذ تدل على أن النقاد القدماء أنفسهم كانوا ملتفتين بكل قوة إلى الجانب القصصي في المقامات، وما فيه من تشويق الحبكة، ومتعة الفكاهة؛ حتى ليقبل الفرنج بكل شوق على قراءتها، وهو ما يدل على أن الأمر فيها أمر إنما هو أمر فن قصصي لا أمر لغة وبديع وبلاغة؛ لأن مثل تلك الأشياء لا تظهر في الترجمة كما هو معروف.
قال الصفدي في (تقويم مقامات الحريري): "ويُحكى أنّ الفِرنج يقرءونها على ملوكهم بلسانهم، ويُصَوّرونها، ويتنادمون بحكايتها، وما ذاك إلا لأن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها تطلعت نفسه إلى ما تنتهي إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة، هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التي تشاكل كتاب (كليلة ودمنة)، وإلى ما فيها من أنواع الأدب، وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة.
وإننا لنتساءل: كيف عرف الدكتور شوقي ضيف -رحمه الله- أن الهمذاني أو الحريري إنما ألفا مقامته لتعليم الناشئة أساليب البلاغة اللغوية لا ليبدعا فنًّا قصصيًّا يشوق، ويمتع بما فيه من سرد وحوار، ووصف، وحبكة، هل قال أي منهما ذلك، ونفى عن نفسه أن يكون هدفه كتابة شيء قصصي؟ وحتى لو كتب هذا هل يمنع ما كتبه ما نراه أمامنا بأم أعيننا، من واقع لا يمكن أن تخطئه العين،