إذ إنّ تِلك المقامات شاهد قوي على عبقريتهما في تصريف اللغة، وإبداع القصص على أحسن ما يُرام، ولقد قرأنا وقرأ كثير من كبار النقاد والأدباء في العصر الحديث تلك المقامات، فألفيناها بدعًا لا يجارى ولا يمارى، والهمذاني والحريري بالمناسبة عربيان صميمان، كذلك فليس الشعوبيون هم الذين اختطوا أسلوب الأسجاع والزخارف البديعية، وإلا فهل كان أبو تمام وابن زيدون من الشعوبيين؟! لقد كان كلاهما مغرمًا بالسجع والمحسنات، وكان كلاهما عربيًّا وسابقًا على ابن العميد وابن عباد الذين عزا إليهما الأستاذ الجندي "كبر أزمة السجع" كما سماها.

بل لقد كان السجع المتكلف المتساخف هو ديدن الكهان العرب في العصر الجاهلي قبل أن يكون ثم فرس وشعوبيون، فما القول في ذلك؟.

كذلك لا نستطيع مجاراة الأستاذ الجندي في رفضه تقسيم الأدب العربي على أساس زمني، فنقول: الأدب الجاهلي، والأدب الإسلامي، والأدب الأموي، والأدب العباسي والمملوكي، والعثماني، والأدب الحديث، ذلك أن مثل هذا التقسيم من شأنه تسهيل دراسة الأدب حتى لا يضيع الدارس في خضم الهادر دون صون تحدد له المسارات والطرق، كما أن كل عصر من تلك العصور يتسم بخصائص في الموضوعات، وفي الأساليب وغيرها تميزه عن سواه من العصور الأخرى.

وإن كانت هناك في ذات الوقت سمات مشتركة بين تلك العصور أو بين بعضها فقط، فضلًا عن وجوب التنبه إلى أن تلك الخصائص الفارقة لا تبرز بين عشية وضحاها، بل تتشكل وتتبلور قليلًا قليلًا ثم لا تختفي مباشرة مع اختفاء العصر الذي تبلورت فيه بل يأخذ اختفاؤها وقتًا، لقد وصم -رحمه الله- هذا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015