بعد ذلك ينتقل الدكتور مندور إلى قضية أخرى هي: هل الشعر الغنائي محاكاة أو تعبير عن الوجدان؟ ثم هل هو تعبير عن الوجدان الفردي أو عن الوجدان الجماعي؟ وينتهي أخيرًا إلى أنه تعبيرٌ عن الوجدان الفردي والجماعي على السواء، وإن كان قد عاد فقال عن الشعر الجاهلي إنه قد نشأ مطابقًا مُطابقة عجيبة لنظرية "المحاكاة الأرسطوطاليسية"، فهل نَفهم من هذا أنه يقصي هذا الإبداع مملكة الشعر الغنائي أم ماذا؟.
وهذا إن صح أن الشعر الجاهلي كان كله شعر محاكاة، وتصوير حسي للبيئة الطبيعية والبشرية على السواء، وهو شعر لا يكاد يظهر فيه وجدان الشاعر إلا في القليل، بحيث لا نستطيع أن نقول عنه: إنه تعبير عن الوجدان ذاته، فالشعراء قد وصفوا في دقة حسية بالغة الناقة، والحصان، وحمار الوحش، والذئب، كما وصفوا الأطلال والدمنة، والأثافي وبعض الآرام والهضاب والدروب، وأعشاب الصحراء.
وبالمثل وصفوا المرأة وصفًا حسيًا دقيقًا، وانحصر غزلهم فيها في هذا الوصف، ولم يعرفوا الغزل العاطفي، ولواعج الغرام إلا بعد ظهور الإسلام، وفي بيئة الحجاز المترفة في العصر الأموي، حيث ظهر الغزل العذري عند المجنون، وقيس بن ذريح، وجميل بن معمر، وابن قيس وسيد عزة حسب كلامه نصًّا.
والواقع أنّ الشعر الغنائي يمكن أن يكون شعرًا تعبيريًّا أو شعر محاكاة أو مزيج من هذا وذاك، ويُمكن أن يكون شعرًا واضحًا أو شعرًا رمزيًّا يبرز فيه دور الموسيقى والإيحاء لا التعبير المباشر، ويُمكِنُ أن يكونَ شعرًا فرديًّا أو شعرًا يُعَبّر فيه صاحبه عن مشاعر الجماعة وآمالها وآلامها وقيمها، ومخاوفها ومفاخرها، ويمكن أن يكون وجدانيًّا أو واقعيًّا، ويمكن أن يكون واقعيًّا متشائمًا أو واقعيًّا متفائلًا،