ولكنه لم يكن يريد بذلك مصر؛ إنما كان يريد شخصه ومطامعه في تحقيق إمبراطورية ضخمة، فلم تكن مصر هي الموضوعة نصب عينيه؛ إنما كانت أحلامه هي التي تدفعه إلى النهوض بالجيش وإعداد حياة علمية من أجله؛ ولذلك لم يحقق للمصريين حرياتهم الفردية والسياسية، ولا حقق لهم رخاء ماديًّا ينتهي بهم إلى رخاء أدبي، فوقف الأدب ووقف الشعر معه عند حياة جامدة خاملة.

واقرأ في دواوين الشعراء الذين عاصروا محمد علي وعباسًا الأول وسعيدًا من مثل: إسماعيل الخشاب، والشيخ حسن العطار، والشيخ محمد شهاب الدين، والسيد الدرويش؛ فلن تجد سوى صور لفظية قد تدثرت بثياب غليظة من محسنات البديع، ولن تجد شعورًا ولا عاطفة. وفيمَ الشعور والعاطفة وكل شيء في الحياة المصرية خامد هامد؟ ولقد تبلدت الحياة، ولم تصب فيها تيارات قومية ولا نفسية جديدة، فجمد الشعر والشعراء، ولم يعد هناك إلا التقليد، وهو تقليد قاصر يقف عند النماذج العثمانية وما يقترب منها، تقليد يشهد بقصور الأدب وضعف الذوق والعجز عن التعبير الحر الصادق.

وعن أي شيء يعبِّر الشاعر وكل ما يتصوره من الشعر أنه نظم لمعانٍ معروفة، وكل ما له من فضل تكديس ألوان البديع بل إثقاله، وإضافة أثقال جديدة من مثل أن ينظم الشاعر قصيدة من حروف معجمة أو مهملة، أو تُقرأ أبياتها من آخرها إلى أولها على نحو ما تقرأ من أولها إلى آخرها، أو ينظم قصيدة تأتلف من أوائل الحروف في أبياتها أبياتًا أخرى، أو يستخرج منها تاريخًا بحساب الجمل.

وليس وراء هذا جميعه إلا الفساد؛ فقد أصبح الشعر حسابًا وأرقامًا وتمارين هندسية عسيرة الحل؛ فإن ترك ذلك الشاعر فإلى الاقتباس والتضمين والتشطير والتخميس لقصائد معروفة. وليس للشاعر من فضل في هذا العمل إلا أنه يُجري كلامًا على آلات العروض والقوافي، وهو كلام مفكك؛ إذ يرص الشاعر الألفاظ على نحو ما يصنع عمال المطابع، فتتألف صناديق من الحروف؛ ولكن لا تتألف أبيات من الشعر؛ وإنما تتألف ألعاب بهلوانية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015