يأنس له العقل؛ لأنه لا يحوي معنًى؛ وإنما هو زخارف لفظية تخنق الشعور، وتقتله قتلًا.

وقد أخذت مصر مع أوائل القرن التاسع عشر في النهوض؛ ولكن محمد علي وجَّه هذا النهوض إلى العلم والفن التطبيقي ولم يعنَ بالشعر والشعراء؛ فقد كان تركيًّا في ثياب مصرية؛ بل لقد كان تركيًّا في ثياب تركية، فكسد الشعر في سوقه وسوق خليفتيه: عباس وسعيد، وأيضًا فإنه قتل الروح المصرية الناشئة -ونقصد الروح القومية- فلم تتفتح عيون المصريين لعهده على حياة كريمة.

ومن أجل ذلك لم يتحرر -في رأينا- الشعر المصري من قيوده الغليظة؛ إذ لم توجد بواعث تدفعه إلى هذا التحرر، لا بواعث من قِبَلِ حرية قومية ولا من قبل حرية شخصية؛ فإن المصريين أُخذت أراضيهم؛ إذ ألغى محمد علي الملكية الزراعية إلغاء تامًّا، وسخرهم في الأرض يفلحون ويزرعون، وكأنهم ليسوا أكثر من أدوات تستغل لضرائبه ورغباته.

ومعنى ذلك أن المصريين لم يفرغوا لحياة روحية، أو بعبارة أخرى: لحياة أدبية؛ فقد كان الحاكم يضيِّق عليهم في الرزق، ولم يكن يتيح لهم ما ينبغي من حرية، فطبيعي ألا تنهض حياتهم الفنية حينئذ؛ لأنها لا تزال تسير في نفس الدروب والمسالك الضيقة التي كانت تسير فيها في أثناء الحكم العثماني، ولا يزال الشعراء يشعرون بكثير من الضنك والفقر والبؤس.

ولا بد لجودة الإنتاج الأدبي أو لنهوضه أن ييسَّر لأصحابه شيء من لين العيش ويُسْر الحياة، وشيء من الحرية الفردية التي تردُّ إليهم كرامتهم، وتشعرهم أنهم أحياء، وهي حرية تستمد من حرية الشعب نفسه تلك الحرية التي تمكنه من تحقيق آماله ومطامحه واعتداده بوجوده، فيحس كل شخص أنه يعيش معيشة كريمة، ويتعاون مع مواطنيه في بعث الحياة في كل مرفق وكل شأن من شئون أمته.

وقد حقق محمد علي لمصر كثيرًا مما كانت تحلم به في السياسة والعلم،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015