عباءته القذرة وطاقيته التي استحال بياضها إلى سواد قاتم، وفي هذا القميص الذي يبين أثناء عباءته وقد اتخذ ألوانًا مختلفة من كثرة ما سقط عليه من الطعام، وفي نعليه الباليتين المرقعتين. تقتحمه العين في هذا كله؛ ولكنها تبتسم له حين تراه، على ما هو عليه من حال رثة وبصر مكفوف، واضح الجبين، مبتسم الثغر، مسرعًا مع قائده إلى الأزهر، لا تختلف خطاه، ولا يتردد في مشيته، ولا تظهر على وجهه هذه الظلمة التي تغشى عادة وجوه المكفوفين. تقتحمه العين ولكنها تبتسم له، وتلحظة في شيء من الرفق، حين تراه في حلقة الدرس، مصغيًا كله إلى الشيخ يلتهم كلامه التهامًا، مبتسمًا مع ذلك لا متألمًا ولا متبرمًا، ولا مظهرًا ميلًا إلى لهو؛ بينما الصبيان من حوله يلهون أو يشرئبون إلى اللهو.
عرفته يابنتي في هذا الطور، وكم أحب لو تعرفينه كما عرفته، إذن تقدرين ما بينك وبينه من فرق. ولكن أنَّى لك هذا وأنت في التاسعة من عمرك ترين الحياة كلها نعيمًا وصفوًا. عرفته ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونًا واحدًا يأخذ منه حظه في الصباح، ويأخذ منه حظه في المساء لا شاكيًا ولا متبرمًا ولا متجلدًا ولا مفكرًا في أن حاله خليقة بالشكوى. ولو أخذت يابنتي من هذا اللون حظًّا قليلًا في يوم واحد لأشفقت أمك، ولقدمت إليك قدحًا من الماء المعدني، ولانتظرت أن تدعو الطبيب.
لقد كان أبوك ينفق الأسبوع والشهر لا يعيش إلا على خبز الأزهر، وويل للأزهريين من خبز الأزهر، إن كانوا يجدون فيه ضروبًا من القش وألوانًا من الحصى وفنونًا من الحشرات. وكان ينفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود، وأنت لا تعرفين العسل الأسود، وخير لك ألا تعرفيه".
وبهذا الأسلوب البارع الذي يمس القلوب ويثير العواطف بما فيه من سلاسة وعذوبة وصفاء وقدرة على التصوير والتلوين، كتب طه حسين هذه الترجمة الذاتية "الأيام" كما كتب بقية قصصه وكتبه. وقد تُرْجمت الأيام إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والعبرية.
ومن أهم ما يميز طه حسين في "الأيام" -وغير الأيام- أسلوبه المتموج الزاخر