حنان أبويه وسط دائرة كبيرة من الإخوة والأخوات. وينتقل بنا إلى الكُتَّاب الذي حفظ فيه القرآن ويعرض علينا صورته في أمانة، لا يستر عيبًا ولا يخفي شيئًا؛ بل يضع بين يدينا كل النقائص التعليمية في هذا الكُتَّاب، الذي لم يستطع أن يقدم لعقله المتطلع شيئًا سوى القرآن الكريم. ويصف وصفًا مؤثرًا آلام أبويه لوفاة أخت له، كما يصف آلامه. وما تكاد الأسرة تفرغ من الجزع عليها؛ حتى تفاجأ بوفاة أخ من إخوته، نزعته من بينهم "الكوليرا".
وينتقل بنا إلى الجزء الثاني، فنراه يتبع أخاه إلى الأزهر؛ حيث زاول الدراسة القديمة فيه إلى جانب عمود من أعمدته، يستمع إلى هذا الشيخ أو ذاك. ووصف لنا في أثناء ذلك المصاعب التي واجهته، والإهمال الذي عاناه من أخيه، وأعطانا صورة دقيقة لحياة الأزهري الضرير من أمثاله في أوائل هذا القرن وما كان يشقى به في غدوِّه ورواحه ويقظته ونومه. وكأنما كان يحمل في عقله آلة تصوير دقيقة، تسجل كل ما يقع حولها في دوائر الطلاب، وهو يتنقل بهذه الآلة بين حلقات الشيوخ المختلفين يلتقط ويختزن. ويظل في ذلك ثماني سنوات، قضاها بين الضجر والملل من حياة الأزهر الضيقة الراكدة حينئذ، وتفتح الجامعة الأهلية أبوابها، فينتقل إلى هذه الجامعة الجديدة، ويتتلمذ على أساتذتها المصريين والأوربيين.
وعلى هذا النحو يعرض الجزآن صُوَرَ المجتمع المصري في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ويجلوان علينا صورة الثقافة والتعليم في الكُتَّاب وفي الأزهر من جميع أطرافهما. ويتحول طه حسين إلى ما يشبه آلة دقيقة من آلات الرصد تُحصي كل هزة كبيرة أو صغيرة في محيطه، وهو يضع تحت عينيك هذا الرصد في صدق يخلبك، لا بأسلوبه فحسب؛ بل بصراحته ودقته وإخلاصه لحكاية الواقع بجميع حقائقه ودقائقه على هذا النحو الذي يتحدث فيه عن نفسه لابنته مقارنًا بين حاضرها الرَّغْد وماضيه:
"عرفته في الثالثة عشرة من عمره حين أرسل إلى القاهرة ليختلف إلى دروس العلم في الأزهر، إن كان في ذلك الوقت لصبي جِدٍّ وعمل. كان نحيفًا شاحب اللون مهمل الزي أقرب إلى الفقر منه إلى الغني، تقتحمه العين اقتحامًا في