بالنغم، فلا تستمع إلى كلام له حتى تعرفه بطوابعه المعينة في عباراته الملفوفة التي يأخذ بعضها برقاب بعض في جرس موسيقي بديع.
وكأنه يرى أن الأدب الجدير بهذا الاسم هو الذي يروع السمع كما يروع القلب في آنٍ واحد؛ وهو لذلك يوفر لصوته كل جمال ممكن. ومن الغريب أنه لا يعدل عبارة يمليها، ولا يعد محاضرة قبل إلقائها، فقد أصبح هذا الأسلوب جزءًا من نفسه وعقله، فهو لا يملي ولا يحاضر إلا به، وكثيرًا ما تجد فيه الألفاظ المكررة، وهو يعمد إلى ذلك عمدًا؛ حتى يستتم ما يريد من إيقاعات وأنغام ينفذ بها إلى وجدان سامعه وقارئه.
وطه حسين من هذه الناحية يشبه أدباءنا القدماء من أمثال الجاحظ الذين كانوا يقصدون قصدًا إلى التأثير بموسيقى كلامهم، فالكلام لا يؤدَّى بأوجز عبارة؛ وإنما يُبْسَط بسطًا ليحمل أداء موسيقيًّا يضاف إلى أداء الأفكار والمعاني. وقد يكون سبب ذلك في القديم أن الناس لم يكونوا -مثلنا الآن- يقرءون الأدب بعيونهم؛ بل كانوا يقرءونه بأصواتهم وآذانهم، فكان الشعر ينشد إنشادًا، وكان النثر يُتلى في الصحف تلاوة؛ لذلك حافظوا على موسيقى الكلام محافظة دقيقة.
واحتفظ لنا في هذا العصر طه حسين بخصائص لغتنا القديمة، فوفر لأسلوبه كل ما يستطيع من جمال صوتي، وأتاح لهذا الجمال أن يعبر تعبيرًا طبيعيًّا عن نظراته وتحليلاته وكل ما نقله إلينا من الغرب، وكل ما جدده وابتكره من أبحاث في الأدب ومن قصص وصور فنية مختلفة. فلم يعد الجمال الصوتي عنده فارغًا؛ بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من أدبه؛ بل لقد غدا في يده أداة مرنة شفافة، تنقل إلينا كل ما يختلج في عقله وقلبه من خواطر ومشاعر نقلًا دقيقًا، فالأسلوب ليس عنده كساء أو طلاء؛ وإنما هو قوام أدبه ومادة فنه، يسند به كل ما يتدفق على ذهنه من معانٍ وأفكار وألفاظ وكلمات.