المضاجع، ولمحت الرحمة الشقاء من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام ...

أيها الإنسان! ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموع غزار، ارحمها قبل أن ينال اليأس منها ويعبث الهم بقلبها، فتؤثر الموت على الحياة. ارحم المرأة الساقطة لا تزيِّن لها خلالها ولا تشتر منها عرضها، علَّها تعجز عن أن تجد مساومًا يساومها فيه، فتعود به سالمًا إلا كسر بيتها.

ارحم الزوجة أمَّ ولدك وقعيدة بيتك ومرآة نفسك وخادمة فراشك؛ لأنها ضعيفة، ولأن الله قد وكل أمرها إليك، وما كان لك أن تكذِّب ثقته بك. ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه، فإنك إلا تفعل قتلته أو أشقيته، فكنت أظلم الظالمين. ارحم الجاهل لا تتحيَّن فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه، فتجمع عليه بين الجهل والظلم، ولا تتخذ عقله متجرًا، تربح فيه ليكون من الخاسرين. ارحم الحيوان لأنه يحس كما تحس ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع، ويتوجع ولا يكاد يبين ...

أيها السعداء! أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

وواضح أن المنفلوطي لا يُعْنَى بموضوعه فحسب؛ بل هو يحاول أن يؤديه أداء فنيًّا يتخير فيه اللفظ، ويحاول أن يؤثر به في سمع القارئ ووجدانه. وهو في ذلك يتأثر بطريقة القدماء الذين كانوا يعنون بالجرس الموسيقي للكلام، وانتهت بهم هذه العناية إلى السجع. والمنفلوطي لا يسجع؛ ولكنه يُعْنَى عناية شديدة بموسيقى ألفاظه، وكأن الناس لا يقرءونه بأبصارهم في الصحف؛ بل هم يقرءونه أو يسمعونه بآذانهم على طريقة القدماء قبل أن تتحول القراءة من السمع إلى البصر.

وهو يبدئ ويعيد في معانيه على طريقة الخطباء؛ بل هو يستعير منهم النداء بمثل أيها الإنسان. وترى عنده مثلهم التكرار في الكلمات مثل: ارحم، ارحم، كما ترى عنده كثرة الفواصل بين العبارات؛ إذ كثيرًا ما يقطع المعاني ويستأنفها. وقد يكون ذلك بسبب انفعالاته العاطفية، ونظن ظنًّا أنه يتأثر أسلوب الخطابة في عصره، عند مصطفى كامل وأضرابه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015