وقد وقف وقفات طويلة عند الإسلام والمسلمين، فبكى ما هم فيه حينئذ من تأخر وانحطاط وانغماس في الشهوات والملذات، ورماهم بأنهم عطلوا الأحكام وعصوا أوامر الدين ونواهيه، وكأنه تحول إلى خطيب في مسجد، فهو يعظ، ويبالغ مبالغة تخرجه عن جادة الحقيقة. ويمثل ذلك موقفه من المدنية الغربية، فقد أساء الظن بها، ورد إليها معايب الشباب وانغماسهم في حمأة الرذيلة، وكأنه غاب عنه ما تحمل هذه المدنية من خير للإنسانية، ففيها الشر وفيها الخير، فيها ما ينبغي أن نرفضه وما ينبغي أن نأخذه.

ومن المحقق أنه لم يكن منوع التفكير بسبب قصور ثقافته؛ إذ لم يطلع على آفاق جديدة، توسع ذهنه ومداركه. ولعل ذلك ما يهبط في عصرنا الحاضر بنظراته، فقد اتسعت معارفنا، ونمت صلتنا بالغرب؛ بل لقد تحول إلينا كثير من عيونه وذخائره النفيسة، وكثر بيننا من يطلعون على آثار القوم في لغتهم كما كثر بيننا من يحسنون التفكير والتغلغل فيه إلى أعماقه وخفياته.

ومن هنا خَفَّت بين أدبائنا الحدة المنفلوطية لإرضاء العاطفة، فقد أصبحوا يطلبون في كتابتهم إرضاء الذهن بغذاء عقلي خصب. وما أشبه أدب المنفلوطي في عباراته الرصينة المنغمة بالآنية المزخرفة؛ ولكنها آنية قلما حملت غذاء للذهن والفكر، ونحن نطلب اليوم الغذاء الفكري بأكثر مما نطلب الوسائل التي تؤديه، ولعل هذا ما جعل المازني يحمل عليه في كتاب "الديوان" غير أنه يقسو في حملته.

ومن الواجب أن نقيس الأديب بمقاييس عصره، وأن نحكم عليه بظروف بيئته، وألا ننتقل به إلى عصر تالٍ نستمد منه مقاييسنا عليه، والمنفلوطي من هذه الناحية أدَّى لمصر في أوائل القرن وإلى الحرب العالمية الأولى آثارًا أدبية بارعة، وكانت هذه الآثار المثل الأعلى للشباب في إنشائهم وفي صَقْل أساليبهم.

وفي النظرات جولات في النقد الأدبي إلا أنها غير عميقة، وليس فيها تحليل واسع لضيق ثقافته، وفيها مراثٍ لطائفة من الأدباء وربما كان خيرها مرثيته لابنه، وفيها يقول متأثرًا لما سقاه من الدواء، والموت يقتطع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015