قبل الحرب، حقًّا أن العقاد والمازني استطاعًا أن يؤصِّلا بعض القواعد النقدية في الشعر في أثناء العشرة الثانية من هذا القرن كما مر في غير هذا الموضع؛ ولكنهما كانا حينئذ يعتمدان كثيرًا على طريقة النقد القديمة، تلك الطريقة اللفظية التي تحلل العبارات والألفاظ وتبحث في السرقات، ونراهما يتطوران بعد الحرب، ويتطور منهجهما النقدي، فتصبح الأصول العامة هي أساس نقدهما، ويكثران من الحديث في القديم والجديد والذوق الأدبي، ويدرسان كثيرًا من شعرائنا القدماء على أصول النقد الغربي وقواعده. وكان يصنع صنيعهما طه حسين وهيكل. ولم يكونوا جميعًا يقفون بدرسهم عند أدبائنا القدماء؛ بل أخذوا يعرضون أدباء الغرب أنفسهم ويحللون آثارهم، ويُصدرون عليهم أحكامًا لا يستمدونها فقط من الباحثين الغربيين؛ وإنما يستمدونها في الغالب من أذواقهم المصرية الجديدة، ومما أتاحوا لأنفسهم من مُثُل أدبية هي مزيج من الآداب العربية القديمة والأوربية الحديثة.
وبذلك أصبح لنا نقد مصري ومقاييس أدبية مصرية، وحقًّا ظهر صراع حاد بين هذه المقاييس الجديدة والمقاييس القديمة، فكان هناك مَن يتشددون في التقيد بالقدماء، وأخذ ذلك شكل معارك حادة بين الرافعي وطه حسين من جهة، والرافعي والعقاد من جهة ثانية.
على أن الرافعي حين نبحث فيه ونعرض آثاره على الدرس نجده يحاول التجديد، فقد حاول في مقالاته وكتبه أن يعبر عن معانٍ حديثة في العواطف وفي الجمال والحب والبغض، وكان يتعمق في هذه المعاني تعمقًا بعيدًا، فتسرب الغموض إلى بعض أساليبه مما جعل الكثرة من الشباب تنصرف عنه إلى خصومه المجددين الذين استطاعوا بثقافتهم العربية والغربية أن يعبروا عما في نفوسهم وعقولهم تعبيرًا حرًّا سهلًا، لا يتقيدون فيه بألفاظ القدماء وأساليبهم؛ وإنما يحتفظون بإطار لغوي عام، ثم يكيِّفون اللغة بعد ذلك بأشكال مختلفة، فتارة ينقلون إلينا بعض الأساليب الغربية، وتارة يخترعون بعض الأساليب اختراعًا.