ويُكثر طه حسين من المقالات في هذه الجوانب، فتارة يتحدث عن القديم والجديد، وتارة يتحدث عن الذوق الأدبي وتجديده، ثم يُخْرج كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي أعاد نشره باسم جديد هو "في الأدب الجاهلي"، وفيه بحث الشعر الجاهلي على أساس مذهب غربي هو مذهب "ديكارت" الذي يقوم على الشك، فالأصل أن نشك في الأشياء ثم نقلبها بعد بحث وامتحان. واستضاء بما كتبه الأوربيون عن إلياذة هوميروس وشكِّهم في حقيقة مَنْ نظم هذه القصيدة القصصية الطويلة، وقد رأى بعضهم أنه نظمها شعراء مختلفون. فحاول طه حسين أن يطبق هذه الدراسات في الشعر اليوناني القديم على الشعر الجاهلي، وأخرج في ذلك كتابه المذكور آنفًا الذي يوضح كثرة الانتحال في الشعر الجاهلي، وأن شعرًا كثيرًا دخل فيه.

وأثار هذا البحث بما فيه من آراء جديدة ضجة واسعة في الناس والبرلمان، وكتب الرافعي وغير الرافعي كتبًا في الرد عليه، وكثر الجدال؛ ولكن طه حسين ثبت للمعركة، وكان ثبوته إيذانًا بنجاح مقاييس النقد الجديدة. وهذه المقاييس لم تكن أوربية خالصة، فقد كان أدباؤنا المجددون يقرءون في الأدب والنقد الأوربيين وكانوا يقرءون في الأدب والنقد العربيين، واستطاعوا أن يجمعوا بين الطريقتين -طريقتي العرب والغربيين- ويستخلصوا لأنفسهم مقاييس جديدة لا هي أوربية خالصة ولا عربية خالصة؛ إنما هي مصرية تصور ما كسبته مصر من التيار الغربي ومن التيار العربي القديم، ثم ما كسبته من الحرية الجديدة بعد الثورة الوطنية الأولى في هذا القرن، الحرية إلى أبعد الحدود في الأفكار والآراء.

ومعنى ذلك أن هذه النزعة المجددة لم تكن هدمًا للقديم؛ وإنما كانت إحياء له وبعثًا وتنمية في صور جديدة، فنحن في تجديدنا لم ننقطع عن القديم لا في الأدب ولا في النقد؛ بل ظللنا نعتمد على عنصرين متكافئين؛ وهما: المحافظة على إحياء القديم، والإفادة من الآداب الغربية.

ونشأ عن ذلك أن مقاييس النقد تغيرت عندنا بالقياس إلى ما كان منها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015