إلى أقصى حد، حتى تكون واضحة أمام القراء، وحتى لا يجدوا أدنى مشقة في فهمها وتصورها، ولا بد أن يُصَفِّي لفظها، ويختار لها لغة سهلة يسيرة، حتى تقترب من الذوق البسيط السهل في الأمة، وحتى يفهم القارئ ما يقرؤه ويعيه وعيًا صحيحًا.
فطبيعي لهذا السبب ولما قدمنا من أسباب وبواعث أن يهجر الأدباء والكُتاب اللغة القديمة التي كان يكتب بها رفاعة الطهطاوي، وأن يهجروا معوقاتها من سجع وبديع، فإن هذا كله لا يلائم المعاني الغربية الكثيرة التي يترجمونها ولا يلائم الذوق الشعبي المتواضع الذي يخاطبونه في الكتب والصحف جميعًا؛ إنما الذي يلائم ذلك هو الأسلوب الحر الطبيعي.
وقد أخذوا يمرنون كلمات هذا الأسلوب على أن تحمل إلينا الآداب والثقافات الغربية من جهة، كما أخذوا يمرنونها على هجر الموضوعات الضيقة، التي كان يُعْنَى بها كتابنا وأدباؤنا في العصور الوسطى، وهي موضوعات شخصية في جملتها لا تكاد تتجاوز موضوعات الشعر من تهنئة بفتح أو ظفر، ومن تعزية أو وصف، ونحو ذلك من موضوعات النثر القديم.
فقد أحلوا محل هذه الموضوعات المحدودة موضوعات عامة، وبعبارة أخرى: أحلوا الأمة محل الأفراد القدماء، فلم يعد الكاتب يتوجه بكتابته إلى شخص معين؛ بل أصبح يتوجه إلى طبقات الأمة على اختلاف درجاتها. ومعنى ذلك: أنه أصبح أديبًا ديمقراطيًّا بعد أن كان أرستقراطيًّا يوجه حديثه إلى أرستقراطيين من أمراء ووزراء وغير أمراء ووزراء؛ لينال مكافآتهم وجوائزهم فيما يعرض له من شئونهم الشخصية، وليمكنوه من المعيشة والحياة.
فقد انتهت هذه الدورة أو الدورات في نثرنا -أو كادت- وأخذ هذا النثر يسعى إلى محيط أوسع، هو محيط الشعب الذي يكسب عيشه منه مباشرة بما ينشر من الكتب وبما يكتب في الصحف. ونتج عن هذا التحول أشياء كثيرة، فإن الكاتب لم يعد عبدًا مسترقًّا لأشخاص بأعينهم، أو لهذا الأمير أو هذا الوزير؛ بل رُدَّتْ إليه حريته، فهو يكتب كما يريد، لا كما كان يريد له الأمراء والوزراء ومن إليهم من الحكام، يكتب آراءه وأفكاره كما أحسَّها