يترجم للطبقة المثقفة الممتازة؛ بل كان يترجم للجمهور، ولم يكن هذا شأن المترجمين في العصر العباسي والعصور السابقة، فإنهم كانوا يترجمون لطائفة محدودة من الأمة، وكانوا يقدمون لها ما يترجمون في نسخ خطية قليلة. ومعنى ذلك: أن الأدب والعلم جميعًا كانا أرستقراطيين، وكانا محتكرين في جماعة بعينها من جماعة الأمة، فلما عرفنا المطبعة وانتشر التعليم في طبقات الشعب أصبح الأدب والعلم شعبيين، وأصبح المترجمون يلاحظون أنهم لا يخاطبون الطبقة المثقفة العليا في الأمة؛ بل يخاطبون طبقاتها على اختلافها.
وأحدث ذلك تطورًا واسعًا في أسلوب الترجمة والكتب الأدبية، فقد أخذ المترجمون والأدباء يلائمون بين أسلوبهم وطبقات الشعب، حتى تفهم عنهم ما يريدون أن يقولوه، وحتى لا تجد مشقة في هذا الفهم. ومن هنا أخذت الأساليب الأدبية تجنح إلى البساطة ومراعاة السهولة، فالكاتب يسعى بجهده إلى تبسيطها وتيسيرها، حتى تروج في الجمهور.
فنحن إذن لم نرجع إلى الأسلوب القديم الفصيح أو الأسلوب المرسل الحر فحسب؛ بل أخذ المترجمون والأدباء يبسِّطون أسلوبهم تبسيطًا لا ينزل به إلى مستوى العامة أو إلى الابتذال، وفي الوقت نفسه لا يعلو عليهم؛ بحيث يشعرون بشيء من العسر في قراءته وفهمه، هو أسلوب بسيط سهل؛ ولكنه عربي فصيح.
وما عملته الصحف في هذا الاتجاه كان أوسع وأعمق بحكم أنها تخاطب كل الطبقات في الأمة لا تميز بين طبقة وطبقة؛ بل لعل عنايتها بالطبقات الدنيا تزيد على عنايتها بالطبقات العليا؛ فإنها تريد أن تنتشر في أوسع جمهور ممكن، وأن تغري هذا الجمهور على فَهْمِها والاستمتاع بها حتى يطلبها.
وجمهور الكِتَاب المترجم والمؤلف من هذه الناحية أضيق كثيرًا من جمهور الصحيفة، فالكِتَاب يخاطب الطبقات المثقفة التي تقرأ، عاليها ودانيها، أما الصحيفة فإنها تريد أن تخاطب الكثرة الساحقة في الأمة؛ ومن أجل ذلك يحتاج الصحفي دائمًا إلى التبسيط في الأسلوب والتفكير بأكثر مما يحتاج مؤلف الكتاب، ومهما كانت الفكرة التي يتناولها مرتفعة في نفسها، فإنه لا بد أن يبسِّطها