وكان هذا العنصر السوري اللبناني شديد الاتصال بالآداب الأجنبية؛ فإن البعوث الدينية المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية -أو بعبارة أخرى: الفرنسية والأمريكية- وصَلته بآدابها وصلًا محكمًا. فلما نزل بديارنا أخذ يعبر عن هذه الصلة بطريق الترجمة، وبذلك كانت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حَقلًا واسعًا للترجمة ونقل الآداب الغربية، فقد تُرجم كثير من القصص والروايات، وترجمت كتب لا تكاد تحصى في الاجتماع والقانون والاقتصاد وجميع فروع الفكر الغربي.
واضطرت هذه الترجمة الواسعة أصحابها اضطرارًا أن يهجروا الأسلوب الذي ترجم به رفاعة الطهطاوي وتلاميذه، أسلوبَ السجع والبديع، فقد رأوه يفسد المعاني التي يريدون نقلها وأداءها إفسادًا؛ لسبب بسيط وهو أنه لا يتسع لها، ولا يتيح للمترجم أن يعبر عنها إلا تعبيرًا مضطربًا، أو تعبيرًا ممتلئًا بعوائق السجع والبديع.
ولم يلبث هؤلاء المترجمون بعد رفاعة أن عرفوا عن طريق المطابع وما تنشر من آثار الأدب العباسي أن وراء هذا الأسلوب القاصر الذي ترجم به رفاعة أسلوبًا مرسلًا حرًّا آخر، يمكِّنهم من صياغة العبارات بحيث تؤدي المعاني الأوربية أداء سهلًا يسيرًا، فعوَّلوا على هذا الأسلوب، واتخذوه وسيلتهم إلى تصوير معانيهم، وخاصة أنهم رأوه يشبه الأساليب الغربية التي يترجمون منها، فإنها تصاغ في لغة سهلة تخلو خلوًّا تامًّا من أثقال السجع والبديع.
وعلى هذا النحو أخذ المترجمون يؤثرون الأسلوب العتيق الفصيح، وينفكون عن أسلوب رفاعة الثقيل الضيق. ولم يكتفوا بذلك؛ بل أخذوا يمرنون هذا الأسلوب على أداء المعاني الغربية الدقيقة، سواء في الفكر أو في الشعور، وأثبتوا أن لغتنا الفصيحة لا تستعصي على أداء هذه المعاني، فكانوا بذلك عاملًا مهمًّا من عوامل بعثها ونهوضها.
وحتى الآن لم نتحدث عن المطبعة والصحف، وقد كان لهما أثر بالغ في هذا التحرر من أسلوب السجع والبديع، فإن من كان يترجم مثلًا لم يكن