وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يُسَلِّمُ عَلَى السُّلْطَانِ وَيَقْضِي حَوَائِجَهُ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ لَعَلَّهُ يَخَافُهُ، يُدَارِيه وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْبٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرُّسُلِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَأْتِيه السُّلْطَانُ وَصَاحِبُ الْبَرِيدِ قَالَ: يُمْكِنُهُ مُعَانَدَةُ السُّلْطَانِ قُلْتُ: رُبَّمَا بَعَثَهُ إلَيْهِ فِي الْحَاجَةِ مِنْ الْخَرَاجِ أَوْ فِي رَجُلٍ فِي السِّجْنِ قَالَ: هَذَا يَكُونُ مَظْلُومًا فَيُفْرِجُ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ يَقُولُ: خَمْسَةٌ تَجِبُ عَلَى النَّاسِ مُدَارَاتُهُمْ الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ وَالْقَاضِي الْمُتَأَوِّلُ وَالْمَرِيضُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَالِمُ لِيُقْتَبَسَ مِنْ عِلْمِهِ. فَاسْتَحْسَنْت ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمِنْ صِفَاتِ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ أَنْ يَكُونُوا مُنْقَبِضِينَ عَنْ السَّلَاطِينِ، مُحْتَرِزِينَ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ قَالَ حُذَيْفَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَمَوَاقِفَ الْفِتَنِ قِيلَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَبْوَابُ الْأُمَرَاءِ يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمِيرِ فَيُصَدِّقُهُ بِالْكَذِبِ وَيَقُولُ: مَا لَيْسَ فِيهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إذَا رَأَيْتُمْ الْعَالِمَ يَغْشَى الْأُمَرَاءَ فَاحْذَرُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ لِصٌّ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنَّك لَنْ تُصِيبَ مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئًا إلَّا أَصَابُوا مِنْ دِينِك أَفْضَلَ مِنْهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَقَدْ سَبَقَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ.
وَالظَّاهِرُ كَرَاهَتُهُ إنْ خِيفَ مِنْهُ الْوُقُوعُ فِي مَحْظُورٍ، وَعَدَمُهَا إنْ أَمِنَ ذَلِكَ فَإِنْ عَرِيَ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَاقْتَرَنَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ تَخْوِيفِهِ لَهُمْ وَوَعْظِهِ إيَّاهُمْ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ كَانَ مُسْتَحَبًّا وَعَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ يُنَزَّلُ كَلَامُ السَّلَفِ وَأَفْعَالُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ الْبَنَّا مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّمَا الْمَذْكُورُ بِالذَّمِّ مَنْ خَالَطَهُمْ فَسَعَى بِمُسْلِمٍ أَوْ أَقْرَأ وَسَاعَدَ عَلَى مُنْكَرٍ، فَيَجِبُ حَمْلُ أَحَادِيثِ التَّغْلِيظِ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.