وصار يقول: لاضابط في التفريق بين اليسير والكثير إلا التحكم والنسبية الشديدة!
وهذا الاعتراض لا يقوله غالبًا إلا من يريد التشغيب على مسألة واحدة وهو يهدم أصلًا كاملًا! فالتفريق بين اليسير والكثير تحيله الشريعة غالبًا إلى عرف الناس، كما قال الإمام ابن قدامة: «والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف» (?).
ولو أبطلنا التفريق بين اليسير والكثير لعدم تعيين الشارع مقدارًا فارقًا لأبطلنا أحكامًا شرعية كثيرة بناها الشارع على ذلك، كما أجاز الشارع لبث الجنب زمنًا يسيرًا في المسجد فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (النساء:43) فهل نَرُدّ هذه الآية ونبطل دلالتها لأنه لا ضابط حاسم في (عبور السبيل)؛ إذ الناس يختلفون في زمن عبور السبيل؟!
فمن يُسْقِط التمييز بين الاختلاط العارض واختلاط المكث بحجة عدم وجود حد حاسم بين اليسير والكثير فقد يظن أنه سيلغي مسألة الاختلاط لكنه في الحقيقة هدم أصلًا شرعيًا عظيمًا.
والمراد أن هذا (القياس الفاسد) إذا تأمله المرء فلابد أن يتذكر الأقيسة الفاسدة التي أشار إليها القرآن، وكيف تسببت في ضلال كثير من الناس، فمن ذلك قياس الربويين حين قاسو الربا على البيع، وأنه لا فرق بينهما كما حكى الله استنباطهم فقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275)؛ فالبيع والربا كلاهما مبادلة رضائية بين طرفين، وكما ينتفع أحدهما بالمال فإن الآخر ينتفع بالفائدة، فقد يتوهم