يَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا يُرِيدُ أَنْ يُهْرَاقَ دَمُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَعْقِرَ جَوَادَهُ، قَاصِدًا أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِنَّ أَفْسَدْنَ قَلْبَهُ وَرَكَنَ إِلَى الدُّنْيَا، وَانْصَاعَ إِلَيْهَا، فَبِمَ اسْتَحْلَلَتَ ذَلِكَ؟ قَالَ الْمَأْمُونُ: نَعَمْ، صَدَقْتَ قَدْ فَعَلْتُ ذَاكَ، وَسَأُخْبِرُكَ بِالْعُذْرِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا، وَإِلا رَجَعْتُ إِلَى رَأْيِكَ، فَشَيْءٌ سِوَى هَذَا أَنْكَرْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، شَيْءٌ آمُرُ وَأَحُثُّ عَلَيْهِ، خَرَجَ نَاهِيكَ يَنْهَانَا عَنْهَ.
قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَبِمَ اسْتَحْلَلَتَ أَنْ تَنْهَى عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؟ قَالَ: أَمَّا الَّذِي يُدْخِلُ الأَمْرَ بِالْمَعُروفِ فِي الْمُنْكَرِ، فَإِنِّي أَنْهَاهُ وَقَدْ نَهَيْتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْمُرُ بَالْمَعْرُوفِ بَالْمَعْرِفَةِ، فَإِنِّي أَحُثُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَحْدُوهُ عَلَيْهِ، فَشَيْءٌ سِوَى هَذِهِ الثَّلاثِ؟ قَالَ: لا.
قَالَ: يَا صَاحِبَ الْكَفَنِ، أَمَّا الْخَمْرُ لَعَمْرِي لَقَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَكِنْ لا تُعْرَفُ إِلا بِثَلاثِ جَوَارِحَ: بِالنَّظَرِ وَالشَّمِّ وَالشُّرْبِ، أَفَتَشْتَرِيهَا أَنْتَ؟ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أُنْكِرَ مَا أَشْرَبُ.
قَالَ: فَيُمْكِنُ فِي وَقْتِكَ هَذَا أَنْ تُوقِفَنَا عَلَى بَيْعِهَا حَتَّى نُوَجِّهَ مَعَكَ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهَا؟ قَالَ: وَمَنْ يُظْهِرُهَا وَيَبِيعُنِيهَا، وَعَلَيَّ هَذَا الْكَفَنُ؟ قَالَ: صَدَقْتَ.
قَالَ: فَكَأَنَّكَ إِنَّمَا عَرَفْتَهَا بِهَاتَيْنِ الْجَارِحَتَيْنِ.
يَا عُجَيْفُ , عَلَيَّ بِقَوَارِيرَ فِيهَا شَرَابٌ.
فَانْطَلَقَ عُجَيْفٌ فَأَتَاهُ بِعِشْرِينَ قَارُورَةً، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ عِشْرِينَ وَصِيفًا.
ثُمَّ قَالَ: يَا صَاحَبَ الْكَفَنِ، نُفِيتُ مِنْ آبَائِي الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَمْرُ فِيهَا.
فَأَيُّهَا الْخَمْرُ؟ فَإِنِّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلا يَجُوزُ لِي أَنْ أَحُدَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ إِلا بِعَلامَةٍ أَوْ شَاهِدَيْ عَدْلٍ أَوْ إِقْرَارٍ.
فَنَظَرَ صَاحَبُ الْكَفَنِ إِلَى الْقَوَارِيرِ، وَقَالَ عُجَيْفٌ: أَيُّهَا الرَّجُلُ وَالَّلهِ لَوْ كُنْتَ خَمَّارًا مَا عَرَفْتَ مَوْضِعَ الْخَمْرِ بِعَيْنِهَا مِنْ هَذِهِ الْقَوَارِيرِ.
فَوَضَعَ نَظَرَهُ عَلَى قَارُورَةٍ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ الْخَمْرُ.
فَدَعَا الْمَأْمُونُ بِالْقَارُورَةِ، فَأُتِيَ بِهَا، فَذَاقَهَا فَقَطَّبَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا صَاحَبَ الْكَفَنِ، انْظُرْ هَذِهِ الْخَمْرَ.
قَالَ: فَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ الْقَارُورَةَ فَذَاقَهَا، فَإِذَا خَلٌّ ذَابِحٌ.
قَالَ: قَدْ خَرَجَتْ هَذِهِ مِنْ حَدِّ الْخَمْرِ.
قَالَ الْمَأْمُونُ: صَدَقْتَ، إِنَّ الْخَلَّ الْمَصْنُوعَ مِنَ الْخَمْرِ لا يَكُونُ خَلًّا حَتَّى يَكُونَ خَمْرًا أَوَّلا، وَاللَّهِ مَا كَانَتْ هَذِهِ خَمْرًا قَطُّ، وَمَا هُوَ إِلا مَاءُ رُمَّانٍ حَامِضٍ يُعْصَرُ لِي فَأَصْطَبِحُ بِهِ.
سَاعَتَهُ قَدْ سَقَطَتْ جَارِحَتَانِ وَبَقِيَ الشَّمُّ، يَا عُجَيْفُ صَيِّرْهَا فِي رَصَاصِيَّاتٍ وَائْتِ بِهَا.
قَالَ: فَفَعَلَ، فَعُرِضَتْ عَلَى صَاحِبِ الْكَفَنِ، فَشَمَّهَا، فَوَقَعَ مَشَمُّهُ عَلَى قَارُورَةِ مُبَخْتَجٍ، فَقَالَ: هَذِهِ.
فَأَخَذَهَا الْمَأْمُونُ فَصَبَّهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا، قَدْ عَقَدَتْهَا النَّارُ كَأَنَّهَا طُلاءُ الإِبِلِ يُقْطَعُ بِالْسِكِّينِ.
وَقَدْ سَقَطَتْ إِحْدَى الثَّلاثِ الَّتِي أَنْكَرْتَ يَا صَاحَبَ الْكَفَنِ.