قَالَ: أُرِيدُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لِمِثْلِ مَا تُرِيدُهُ، غَبَرْتُ أَنَا وَعَبْدُ الْمَلِكِ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا لا نَفْتَرِقُ لَيْلا وَلا نَهَارًا، إِلا أَنْ يَذْهَبَ مِنَّا رَجُلٌ إِلَى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ يَئُوبُ إِلَى مَجْلِسٍ لَنَا نَتَذَاكَرُ فِيهِ أَيَّامَ الْعَرَبِ، وَفُنُونَ الأَحَادِيثِ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيبٍ، فَكُنْتُ لا أَجِدُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَا أَجِدُ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فِي اتِّسَاعِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ، وَحُسْنِ اسْتِمَاعِهِ إِذَا حُدِّثَ، وَحَلاوَةِ لَفْظِهِ إِذِا حَدَّثَ، فَخَلَوْتُ مَعَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَجَذِلٌ لِمَا أُشَاهِدُ مِنْ كَثْرَةِ تَصَرُّفِكَ، وَحُسْنِ حَدِيثِكَ، وَإِقْبَالِكَ عَلَى جَلِيسِكَ، فَقَالَ لِي: إِنَّكَ إِنْ تَعِشْ قَلِيلا، فَسَتَرَى الْعُيُونَ إِلَيَّ طَامِحَةً، والأَعْنَاقَ إِلَيَّ قَاصِدَةً، وَالرِّجَالَ قَدْ وَطِئَتْ عَقِبَيَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَدْرَكْتَنِي لَأُكْرِمَنَّكَ وَلَأَمْلأنَّ يَدَيْكَ، فَوَلِيَ مَا وَلِيَ، وَأَدْرَكَ مَا أَدْرَكَ، فَوَاللَّهِ مَا تَاقَتْ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُوَ فِيهِ نَفْسِي، وَلا تَطَلَّعَتْ، حَتَّى وُلِدَ لِي غُلامٌ فَأَسْهَرَ لَيْلِي الِاهْتِمَامُ وَالِاغْتِمَامُ بِأَمْرِهِ لِئَلا يَبْقَى بَعْدِي إِذَا مِتُّ قَلَيْلَ الْوَفْرِ.
فَتَاقَتْ نَفْسِي إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَنَفْسِي مُتَعَلِّقَةٌ بِبُنَيَّ، لَيْسَ لَيْلِي بِلَيْلٍ، وَلا نَهَارِي بِنَهَارٍ.
يَا أَخَا بَنِي لَيْثٍ فَمَا تَرَى وَمَا تُشِيرُ؟ قَالَ: تَقَدَّمْ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، مَلِكِ الْآفَاقِ، فَإِنْ عَرَضَ عَلَيْكَ حَاجَةً، فَلا يَكْبُرَنَّ فِي عَيْنِكَ أَنْ تَسْأَلَهُ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْمَانِعَ وَالْمُعْطِيَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ، فَرُبَّمَا خَرَجَتِ الرَّغَائِبُ مِنْ يَدِ الْبَخِيلِ وَمِنَ الْجَوَادِ بِالْقَلِيلِ.
قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ لِسَانُكَ عَبَّرَ عَنْ قَلْبِي مَا عَدَا مَا قُلْتَ.
قَالَ عُرْوَةُ: فَتَسَايَرْنَا أَيَّامًا وَلَيَالٍ مَا يُكِرُّ عَلَيَّ حَدِيثًا وَلا بَيْتًا مِنْ شِعْرٍ.
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِأَحَادِيثِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا وَأَيَّامِهَا.
فَقَالَ لِي: مَنْ أُقْدِمُ وَاللَّهِ عَلَيْهِ غَدًا أَعْلَمُ مِنِّي.
وَاللَّهِ مَا أَنَا إِلا خَلَجٌ مِنْ بَحْرِهِ، وَأَيْنَ يَقَعُ الْحَقُّ الضَّئِيلُ عِنْدِ مُخَاطَرَةِ الْقُرُومِ الْقَيَاسِرَةِ وَالْفُحُولِ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَنْ تَعْنِي؟ قَالَ: عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ.
قُلْتُ: وَإِنَّهُ عِنْدُكَ لَكَذَلِكَ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ أَوَّلِيَّةِ الْعَرَبِ.
قَالَ عُرْوَةُ: فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ لَيْلَةً، وَأَنَا مَعَهُ إِذْ لَحِقَنَا أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ، وَهُوَ يُنْشِدُ شِعْرًا وَيَتَرَنَّمُ بَهِ، يَقُولُ:
أَلا أَيُّهَا الْبَيْتُ الْقَرِيبُ مَزَارَهُ ... سُقِيتَ أَلَمْ يُحْزِنْكَ مِنْ أَهْلِكَ الْهَجْرُ
فَمَا كَانَ هِجْرَانِيكَ مِنْ حَدَثِ الْقِلَى ... وَلَكِنَّ هِجْرَانِيكَ فِي صَرْفِهِ عُذْرُ
قَالَ عُرْوَةُ: فَقَالَ صَاحِبِي: أَعِدْ وَيْحَكَ كَيْفَ قُلْتَ:
فَمَا كَانَ هِجْرَانِيكَ مِنْ حَدَثِ الْقِلَى ... وَلَكِنَّ هِجْرَانِيكَ فِي صَرْفهِ عُذْرُ
فَأَعَادَ عَلَيْهِ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ: وَيْحَكَ مَنْ قَائِلُ هَذَا الشِّعْرِ؟ قَالَ: الَّذِي يَقُولُ: