وَاجْعَلْ دُنْيَاكَ صِلَةً لِآخِرَتَكَ، وَلا تَرْضَ لَهَا بِهَا عِوَضًا مِنَ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرَضَهَا عِقَابًا لِمَنْ سَخِطَ عَلَيْهِ، وَلا ثَوَابًا لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَانْظُرْ بَنَاتِي، فَوَصِيَّتِي فِيهِنَّ مَا أَوْصَى بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ فِي بَنَاتِهِ، حِينَ قَالَ: يَا عَمْرُو، انْظُرْ بَنَاتِي، فَاجْعَلِ الْبُيُوتَ لَهُنَّ قُبُورًا حَتَّى يَأْتِيَهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَأْتِيَكَ الأَكْفَاءُ.
وَانْظُرْ غِلْمَانِي، فَلا تَحْبِسْ مِنْهُمْ مَنْ رَآكَ مِنْهُمْ صَغِيرًا، فَإِنَّهُ لا يُسِرُّ لَكَ هَيْبَةً، وَانْظُرْ إِلَى مَالِي فَإِنْ كَرِهْتَ مِنْهُ شَيئًا وَرَأَيْتَ الِاسْتِبْدَالَ بِهِ خَيرًا مِنْ حَبْسِهِ فَلا تَحْبِسْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ وَانْظُرْ أَهْلَكَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَصْلُحُوا وَأَنْتَ فَاسِدٌ، وَلْيَكُنْ لَكَ فِي مِنْزِلِكَ طَعَامٌ، وَإِنْ قَلَّ يُأْتِكَ مَنْ فِي مَنْزِلِهِ أَطْيبَ مِنْهُ وَأَكْثَرَ، انْظُرْ بَنِي زَيَادٍ أَخْوَالَكَ، فَكُنْ لَهُمُ ابْنَ أُخْتٍ مَا كَانُوا لَكَ أَخْوَالا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى غَيْرِهَا فَأَوْسِعْهُمُ الْجَفَاءَ، وَإِنْ حَمَلُوكَ عَلَى الَّذِي حَمَلُونِي عَلَيْهَا، فَارْكَبْ غَيْرَ هَائِبٍ لَهُمْ، فَإِنَّ الَّذِي قَدَّمْتُهُ لَكَ مُعِينٌ لَكَ عَلَيْهِمْ، وَلَنْ يَدَعُوكَ حَتَّى يُخْبِرُوكَ، فَلا تَدَعْهُمْ حَتَّى يُعَرِّفُوكَ
حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: " دَخَلَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: يَا عَمْرُو عِظْنِي وَأَوْجِزْ.
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الدُّنْيَا بَحَذَافِيرِهَا فِي يَدَيْكَ، فَاشْتَرِ نَفْسَكَ مِنْ رَبِّكَ بِبَعْضِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَائِلُكَ عَنْ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنَ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى مِنْكَ إِلا بِالْعُذْرِ مِمَّنِ اسْتَرْعَاكَ وَفَوَّضَ أُمُورَهُمْ إِلَيْكَ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَكِّرْ فِي نَفْسِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ مِنْ آدَمَ خُلِقْتَ، وَآدَمُ قَبْلَكَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ مِنْ وَرَاءِ بَابِكَ نَارًا مِنَ الْجُوْرِ وَالظُّلْمِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، وَاشْتَرِ نَفْسَكَ مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ مِنْ عِظَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيْهِ.
فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: مَنْ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ لَهُ: هَذَا أَخُوكَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُجَالِدٍ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَمْرُو، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَمُوتُ غَدًا، وَإِنَّ كُلَّ مَا تَرَى يَنْقَطِعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنْتَ غَدًا جِيفَةٌ مُلْقًى قَدِ اسْتَحْضَرَ فِي بَدَنِكَ الدُّودُ.
يُقَذِّرُكَ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، لا يَنْفَعُكَ إِلا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَلَهَذَا الْجِدَارُ خَيرٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكَ إِذَا طَوَيْتَ النَّصِيحَةَ عَنْهُ، وَأَقْبَلْتَ تَزْجُرُ مَنْ يَنْصَحُهُ.