فَلَمَّا وُورِيَ فِي حُفْرَتِهِ قَامَ جَدِيلَةُ بْنُ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا حَنْظَلَةُ بْنُ نَهْدٍ فَكَّاكُ الأَسِيرِ، وَطَارِدُ الْعَسِيرِ، فَهَلْ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مُجَازٍ بِفِعْلِهِ، أَوْ حَامِلٌ عَنْهُ مِنْ ثِقَلِهِ، كَلا وَأَجَلْ، إِنَّ مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ لَكُمْ شَرَقًا، وَفِي كُلِّ أَكْلَةٍ لكم غَصَصًا، لا تَنَالُونَ نِعْمَةً إِلا بِفِرَاقِ أُخْرَى، وَلا يَسْتَقْبِلُ مُعَمَّرٌ يَوْمًا مِنْ عُمُرِهِ إِلا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ، وَلا يَجِدُ لَذَّةَ زِيَادَةِ أَكْلِهِ إِلا بِنَفَادِ مَا قِبَلَهُ مِنْ رِزْقِهِ، وَلا يَحْيَى لَهُ أَثَرٌ إِلا مَاتَ أَثَرٌ، إِنَّ فِي هَذَا لَعِبَرًا وَمُزْدَجَرًا لِمَنْ نَظَرَ، لَوْ كَانَ أَصَابَ أَحَدٌ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّمًا، وَوَجَدَ إِلَى الْمَرْحَلِ عَنِ الْفَنَاءِ سَبِيلا، لَكَانَ ابْنَ دَاوُدَ الْمَقْرُونَ لَهُ النُّبُوَّةُ بِمُلْكِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
وَهَذَا صَاحِبُ الْمُلْكَيْنِ أَضْحَى ... تُخَرِّقُ فِي مَصَانِعِهِ الْمَنُونُ
فَكَانَ عَلَيْهِ لِلأَيَّامِ دَيْنٌ ... فَقَدْ قُضِيَتْ عَنِ الْمَرْءِ الدُّيُونُ
وَخَانَتُهُ الْعَصَا مِنْ بَعدِ مَا قَدْ ... أَتَى مَيْتًا لَهُ حِينٌ فَحِينُ
عَلَى الْكُرْسِيِّ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ ... تَحَارُ الشَّمْسُ فِيهِ وَالْعُيُونُ
وَتَضْحَى الْجِنُّ عَاكِفَةٌ عَلَيْهِ ... كَمَا عَكَفَتْ عَلَى الأُسْدِ الْعَرِين
وَسُخَّرَتِ الْعُيُونُ لَهُ جَمِيعًا ... عَلَيْهِ الطَّيْرُ عَاكِفَةً عَرِينُ
فَلَمْ أَرَ مِثْلَهَ حَيًّا وَمَيْتًا ... عَلَى الأَيَّامِ كَانَ وَلا يَكُونُ
فَدَانَ لَهُ الْخَلائِقُ ثُمَّ هَبُّوا ... وَدَانَ فِيمَا قَدْ يَدِينُ
بَنَى صَرْحًا لَهُ دُونَ الثُّرَيَّا ... وَأُجْرِيَ تَحْتَهُ الْمَاءُ الْمَعِينُ
تَرَاهُ مُتْقَنًا لا عَيْبَ فِيهِ ... يَخَالُ بِصَرْحِهِ الذِّهْنُ الذَّهِينُ
وَقَدْ مَلَكَ الْمُلُوكَ وَكُلَّ شَيْءٍ ... تَدِينُ لَهُ السُّهُولَةُ وَالْحُزُونُ
فَأَفْنَى مُلْكَهُ مَرَّ اللَّيَالِي ... وَخَوْنَ الدَّهْرِ فِيمَا قَدْ يَخُونُ
وَكُلُّ أَخِي مَكَاثِرِهِ وَعِزٍّ ... إِلَى رَيْبِ الْحَوَادِثِ مُسْتَكِينُ
كَذَاكَ الدَّهْرُ يُفْنِي كُلَ حَيٍّ ... وَيَعْقُبُ بَعْدَ قُوَّتِهِ الْيَقِينُ
ثُمَّ قَامَ ابْنُ كَثِيرِ بْنُ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا حَنْظَلَةُ بْنُ نَهْدٍ مَعْدِنُ الْحُكَمَاءِ، وَعِزُّ الضَّعَفَاءِ، وَمُعْطِي الْيَانِعِ، مُطْعِمُ الْجَائِعِ، فَهَلْ مِنْكُمْ لَهُ مَانِعٌ؟ أَوْ لِمَا حَلَّ بِهِ دَافِعٌ! .
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الْبَقَاءُ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَقَدْ خُلِقْنَا وَلَمْ نَكُ شَيْئًا، وَسَنَعُودُ إِلَى ذَلِكَ.