قَالَ ابْنُ خُرَيْمٍ: فَحَدَثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ دَعَاهُمَا، فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلامِ ابْنِ خُرَيْمٍ أَوْ قَوْلِهِ، وَأَوْقَعَ عَلَى قَلْبِي مَعَ النَّصِيحَةِ وَشَدَّةِ الرَّأْيِ.

قَالَ: فَأَتَيْتُ أَنَا وَالرَّبِيعُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: تَتَقَارَضَانِ الثَّنَاءَ عِنْديِ كَذَبْتُمَا، وَكُذِبَ فِيكُمَا، اخْرُجَا عَنِّي

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَرِيبٍ، قَالَ: " خَرَجْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْبَادِيَةِ، فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ إِلَى جَانِبِ قَبْرٍ، وَهِيَ تَسْتُرُ جِيدَهَا، فَقُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَرأَةُ تَنْدُبُ أَوْ تَرْثِي، فَدَنَوْتُ مِنْهَا وَهِيَ لا تَدْرِي، حَتَّى قَرُبْتُ مِنْهَا، فَإِذَا هِيَ تَقُولُ:

هَلْ خَبَّرَ الْقَبْرُ سَائِلِيهِ ... أَمْ قَرَّ عَيْنًا بِزَائِرِيهِ

أَمْ هَلْ تَرَاهُ أَحَاطَ عِلْمًا ... بِالْجَسَدِ الْمُسْتَكِنِّ فِيهِ

لَوْ يِعْلَمُ الْقَبْرُ مَنْ يَوَارِي ... تَاهَ عَلَى كُلِّ مَنْ يَلِيهِ

يَا مَوْتُ لَوْ تَقْبَلُ افْتِدَاءً ... كُنْتُ بِنَفْسِي سَأَفْتَدِيهِ

أَنْعَى يَزِيدًا لِمُجْتَدِيهِ ... أَنْعَى يَزِيدًا لِمُعْتَفِيهِ

أَنْعَى يَزِيدًا إِلَى حُرُوبٍ ... بِوَصْفِهِ نَدَبَ نَادِبِيهِ

يَا جَبَلا كَانَ ذَا امْتِنَاعٍ ... وَرُكْنَ عِزٍّ لآمِلِيهِ

يَا نَخْلَةً طَلْعُهَا نَضِيدٌ ... يَقْرُبُ مِنْ كَفِّ مُجْتَنِيهِ

تَحْلُو نِعَمٌ عِنْدَهُ سَمَاحًا ... وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ لا بِفِيهِ

أَيَا صَبُورًا عَلَى بَلاءٍ ... كَانَ بِهِ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ

قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَرِيبٍ: فَحَفِظْتُ مَا قَالَتْ، ثُمَّ دَنَوْتُ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ لَهَا: أَعِيدِي لَفْظَكِ رَحِمَكِ اللَّهُ.

قَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُنِي مَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْهَا.

قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: فَاسْمَعِي مِنِّي مَا قُلْتِ: قَالَتْ: قُلْ.

فَأَنْشَدْتُهَا مَا قَالَتْ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهِ.

قَالَتْ: مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا لَهُ مِثْلُ حِفْظِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلادِ الأَصْمَعِيِّ فَأَنْتَ هُوَ

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَرِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ، " أَنَّ رَجُلا مِنَ الْعَرَبِ خَرَجَ فِي طَلِبِ إِبِلٍ لَهُ نَدَّتْ، فَوَرَدَ مَنْهَلا مِنْ مَنَاهِلِ الْعَرَبِ، فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ جَمِيلَةٍ، لَهَا لِسَانٌ وَبَيَانٌ، فَدَنَا مِنْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، فَرَدَّتِ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَانْتَسَبَ لَهَا.

فَقَالَتْ لَهُ: مَا أَقْدَمَكَ هَذِهِ الْبِلادَ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: خَرَجْتُ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لِي نَدَّتْ عَنِّي، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهَا، فَهَلْ أَحْسَسْتِ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَتْ: لا وَاللَّهِ وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى مَنْ يَرُدُّهَا عَلَيْكَ.

قَالَ: افْعَلِي.

قَالَتْ: سَلِ الَّذِي أَعْطَاكَهَا، بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ، أَنْ يَرُدَهَا عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ مَالِكُ كُلَّ شَيْءٍ.

قَالَ: مِمَّنِ الْمَرْأَةُ؟ قَالَتْ: مِنْ بَنِي عَامِرٍ.

قَالَ: أَلَكِ زَوْجٌ، وَتَأْمَنِينَ بَوَائِقَهُ؟ فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَاهَا، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:

كُنَّا كَغُصْنَيْنِ فِي أَصْلٍ غِذَاؤُهُمَا ... مَاءُ الْجَدْوَلِ فِي رَوْضَاتِ جَنَّاتِ

فَاجْتُثَّ خَيْرَهُمَا عَنْ أَصْلِ صَاحِبِهِ ... دَهْرٌ يَكِرُّ بِعَوْلاتٍ وَتَرْحَاتِ

وَكَانَ عَاهَدَنِي إِنْ رَامَنِي زَمَنٌ ... أَنْ لا يُضَاجِعَ أُنْثَى بَعَدَ مَثْوَاتِي

وَكُنْتُ عَاهَدْتُهُ أَيْضًا فَغَادَرَهُ ... رَيْبُ الزَّمَانِ قَرِيبًا مُذْ سُنَيَّاتِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015