فَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ أَقْبَلَتِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي بَايَعَتْهُ تَزِفُّهُ زَفًّا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ افْتَرَقُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَاجْتَمَعَ قَوْمٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَقَوْمٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَعَاتَبُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ أُولِي فَضْلٍ وَنَصْرٍ وَسَابِقَةٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيكُمْ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ وَلا عُمَرَ وَلا عَلِيٍّ وَلا أَبِي عُبَيْدَةَ» .
فَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: " إِنَّا لا نُنْكِرُ فَضْلَ مَنْ ذَكَرْتَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّ مِنَّا لَسَيِّدَ الأَنْصَارِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَمَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُقْرِئَهُ السَّلامَ، وَأَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ الْقُرْآنَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَمَنْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامَ الْعُلَمَاءِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَمَنْ أَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِمَّنْ سَمَّيْتَ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ لَوْ طَلَبَ هَذَا الأَمْرَ لَمْ يُنَازِعْهُ فِيهِ أَحَدٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ".
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي.
إِنَّ لِي شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّايَ إِذَا غَضِبْتُ، لا أُوثِرُ فِي أَشْعَارِكُمْ، وَأَبْشَارِكُمْ.
الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ مِنْكُمْ قَوِيٌّ حَتَّى أَرُدَّ إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَالْقَوِيُّ ضِعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ.
إِنَّهُ لا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ إِلا ضَرَبَهَمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلا تَشِيعُ فِي قَوْمٍ الْفَاحِشَةُ إِلا عَمَّهُمُ الْبَلاءُ.
أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ.
قُومُوا إِلَى صَلاتِكُمْ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ» .
قَالَ ابْنُ أَبِي عَزَّةَ الْقُرَشِيُّ:
شُكْرًا لِمَنْ هُوَ بِالثَّنَاءِ حَقِيقُ ... ذَهَبَ اللَّجَاجُ وَبُويِعَ الصِّدِّيقُ
مِنْ بَعْدِ مَا زَلَّتْ بِسَعْدٍ نَعْلُهُ ... وَرَجَا رَجَاءً دُونَهُ الْعَيُّوقُ
حَفَّتْ بِهِ الأَنْصَارُ عَاصِبَ رَأْسِهِ ... فَأَتَاهُمُ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالَّذِينَ إِلَيْهِمُ ... نَفْسُ الْمُؤَمِّلِ لِلَّقِاءِ تَتُوقُ
كُنَّا نَقُولُ لَهَا عَلِيٌّ وَالرِّضَا ... عُمَرٌ وَأَوْلاهُمْ بِذَاكَ عَتِيقُ
فَدَعَتْ قُرَيْشٌ بِاسْمِهِ فَأَجَابَهَا ... إِنَّ الْمُنَوَّهُ بِاسْمِهِ الْمَوْثُوقُ
قُلْ لِلأُلَى طَلَبُوا الْخِلافَةَ زِلَّةٌ ... لَمْ يَخْطُ مِثْلَ خُطَاهُمُ مَخْلُوقُ
إِنَّ الْخِلافَةَ فِي قُرَيْشٍ مَالَكُمْ ... فِيهَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ مَعْرُوقُ
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا بُويِعَ افْتَخَرَتْ تَيْمُ بْنُ مُرَّةَ.
قَالَ: وَكَانَ عَامَّةُ الْمُهَاجِرِينَ وَجُلُّ الأَنْصَارِ لا يَشُكُّونَ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ صَاحِبُ الأَمْرِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَخُصُوصًا يَا بَنِي تَيْمٍ، إِنَّكُمْ، إِنَّمَا أَخَذْتُمُ الْخِلافَةَ بِالنُّبُوَّةِ.