قَالَ: فَدَخَلَ الأَحْمَرُ بْنُ سَالِمِ الْمُرِّيُّ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَحْمَرُ كَيْفَ قُلْتَ:
مُقِلٌّ رَأَى الْإِقَلالَ عَارًا فَلَمْ يَزَلْ ... يَجُوبُ بِلادَ اللَّهِ حَتَّى تَمَوَّلا
فَأَنْشَدَهُ، فَأَصْغَى إِلَيْهِ مُطْرِقًا فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ لَهُ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى بِالْجَمِيلِ عَيْنًا، فَافْعَلَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، فَإِنِّي لَمَا أَوْلَيْتَنِي غَيْرُ كَافِرٍ.
فَأَمَرَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بِعَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، وَأَلْحَقَهُ فِي الشَّرَفِ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ يَقُولُ:
بِكَفِّ ابْنِ مَرْوَانٍ حَيِيتُ وَنَاشَنِي ... إِلَهِيَ مِنْ دَهْرٍ كَثِيرِ الْعَجَائِبِ
فَأَدْرَكَنِي وَالرُّكْنُ مِنِّي مُضَعْضَعٌ ... وَقَدْ أَشْرَفَ الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
وَقَالُوا هُوَ الْمُرِّيُّ سَيِّدُ قَوْمِهِ ... عُرُوقٌ نَمَتْهُ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ
فَقُلْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ لا حَمْدِ غَيْرِهِ ... وَحَمْدِ ابْنِ مَرْوَانٍ نَجَوْتُ وَصَاحِبِي
مِنَ اللَّيْثِ إِذْ نَحَّى إِلَيَّ بَنَانَهُ ... وَكَانَ أَلِيمًا أَخْذُهُ لِلْمَحَارِبِ
فَأَفْلَتُّ مِنْهُ بَعْدَمَا قَدْ تَشَبَّثَ ... بِشِلْوِيَ مِنْهُ مُوجَدَاتِ الْمَخَالِبِ
وَكَانَ ابْنُ مَرْوَانَ يَرْأَبُ الثَّأَى ... وَيُشْعِبُ مَا أَعْيَا بِهِ كُلُّ شَاعِبِ
وَيُعْطِي الْمُنَى مَنْ جَاءَهُ مُتَنَصِّفًا ... وَفَوْقَ الْمُنَى وَرَغْبَةَ الْمُتَرَاغِبِ
وَكَمْ لِابْنِ مَرْوَانٍ عَلَى النَّاسِ مِنْ يَدٍ إِذَا ذُكِرَتْ لَمْ تُخْزِهِ فِي الْمَحَاصِبِ
تَدَارَكَ دِينَ اللَّهِ إِذْ هُدَّدَ رُكْنُهُ ... وَأَطْمَعَ فِيهِ كُلُّ نَكْسٍ وَجَانِبِ
بِحَزْمٍ وَجِدٍّ لا يُجَارَى وَجِدَّةٍ ... وَصَبْرٍ عَلَى وَقْعِ السُّيُوفِ الْقَوَاضِبِ
وَحِلْمٍ عَنِ الْجُهَّالِ إِذَا شَنَفُوا لَهُ ... وَسَارُوا بِجَمْعٍ مُطْلَخِمِّ الْكَتَائِبِ
فَنَازلَهُمْ بِالسِّيفِ صَلْتًا وَنَاصِرٌ ... مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَائِبِ
فَوَلَّى جُمُوعُ الْمُلْحِدِينَ وَأَدْبَرُوا ... كَمَا أَدْبَرَتْ مِلَ الأُسْدِ نُورُ الثَّعَالِبِ
وَقَوَّمَ دَيْنَ اللَّهِ مَرْوَانُ وَابْنُهُ ... وَلَمْ يَرْجُمَا مَا جَمَّعُوا بِالتَّكَاذُبِ
هُمَا صَدَقَا الأَعْدَاءَ فِي مُرْجَحِنَّةٍ ... تَوَلَّوا حَذَارَ الشَّرْمَحِيِّ الْضُبَاضِبِ
الشَّرْمَحِيُّ مِنَ الرِّجَالِ: التَّامُّ الْجَمِيلُ الْكَرِيمُ.
وَلَوْ وَقَفُوا صَارُوا حَدِيثًا لِخَلْفِهِمْ ... كَمَا حَدَّثَ الأَقُوَامُ عَنْ أَهْلِ مَأْرِبِ
وَقَامَ لَنَا مِنْ بَعْدُ مَرْوَانُ وَابْنُهُ ... بِحَزْمٍ وَرَأْيٍ غَيْرِ هَدٍّ مُوَارِبِ
فَدَوَّخَ مَنْ عَادَى الْإِلَهَ بِصَوْلَةٍ ... يُبَصْبِصُ مِنْهَا كُلُّ خِرْقٍ مُحَارِبِ
فَلَمَّا أَنْشَدَ عَبْدَ الْمَلِكِ، قَالَ: أَحْسَنْتَ، وَيْحَكَ يَا ابْنَ سَالِمٍ هَلْ كُنْتَ هَيَّأْتَ شَيْئًا مِمَّا قُلْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: لا.
قَالَ: وَيْحَكَ، فَقَدْ أَمْكَنَكَ الْقَوْلُ، فَلا تُكْثِرْ، وَقَلِيلٌ كَافٍ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ غَيْرِ شَافٍ.
ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِخُلْعَةٍ، وَأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ وَحَمَلَهُ.
فَقَالَ: الْزَمْ بَابِي، وَإِيَّاكَ وَأَعْرَاضَ النَّاسِ، فَإِنِّي أَرَى لَكَ لِسَانًا لا يدَعُكَ حَتَّى يُوقِعَكَ فِي وَرْطَةٍ يَوْمًا، فَاحْذَرْ أَنْ يُورِدَكَ شِعْرُكَ مَوْرِدَ سُوءٍ يُصَيِّرُكَ تَحْتَ كَلْكَلِ هَزَبْرِ أَبِي شِبْلٍ يُضْغِمُكَ ضَغْمًا لا بَقِيَّةَ بِعْدَ ضَغْمِهِ فِيكَ.
فَلَمْ يَلْبَثِ الأَحْمَرُ بْنُ سَالِمِ أنْ قَدِمَ الْعِرَاقَ فَهَجَا الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ، قَالَ فِي هِجَائِهِ لَهُ: