قَالَ حَاتِمٌ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ وَلَكِنِّي رَأَيْتُ وُجُوهًا لا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَلْوَانًا مُخْتَلِفَةً، فَظَنَنْتُ الأَنْسَابَ مُفْتَرِقَةً، وَالْبَلَدَ غِيرَ جَامِعٍ لَكُمْ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَذْكَرَ كُلُّ رَجُلٌ مِنْكُمُ إِذَا هُوَ أَتَى قَوْمَهُ مَا رَأَى، فَإِنْ مَرَّ بِي نَزَلَ.
فَلَمَّا أَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنَ اللَّبَنِ وَشَبِعُوا وَارْتَوَوْا، قَالَ عَبِيدُ بْنُ الأَبْرَصِ فِيهِ شِعْرًا يَمْتَدِحُهُ فِيهِ، فَيَذْكُرُ حُسْنَ فِعَالَهِ، وَحُسْنَ إِضَافَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ أَيْضًا يِمْتَدِحُهُ، وَقَالَ النَّابِغَةُ أَيْضًا يَمْتَدِحُهُ.
فَلَمَّا سَمِعَ مَا قَالُوا قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ إِكَرْامَكُمْ وَالِإِحْسَانَ إِلَيْكُمْ فَلَكُمُ الْآنَ الْفَضْلُ، أُقْسِمُ بِاللَّهِ لِأَضْرِبَنَّ عَرَاقِيبِهَا مِنْ آخِرِهَا أَوْ تَقُومُوا إِلَيْهَا فَتُقَسِّمُوهَا، بَيْنَكُمْ أَثْلاثًا عَلَى مَا أَحْبَبْتُمْ، فَقَامُوا إِلَيْهَا فَاقْتَسَمُوهَا، فَأَصابَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَسْعٌ وَثَلاثُونَ نَاقَةً، وَمَضَوْا فِي سَفَرِهِمْ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى النُّعْمَانِ بِالْحِيرَةِ، وَإِنَّ أَبَا حَاتِمٍ عَبْدَ اللَّهِ بَلَغَهُ مَا فَعَلَ حَاتِمٌ بِالْإِبِلِ فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ مَا فَعَلْتَ بِالْإِبِلِ؟ قَالَ: يَا أَبَتِ طَوَّقْتَ بِهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ، وَحَوَيْتَ بِهَا مَجْدَ الدَّهْرِ، لا يَزَالُ رَجُلٌ يَحْمِلُ فِينَا بَيْتَ شِعْرٍ بِمَكَانِ إِبِلِكَ.
قَالَ: أَبِإِبِلِي أَرَدْتَ الْمَجْدَ؟ قَالَ حَاتِمٌ: نَعَمْ.
فَقَالَ أَبُوهُ: وَاللَّهِ لا أَسْكُنُ مَعَكَ فِي بَلَدٍ أَبَدًا.
قَالَ حَاتِمٌ: إِذًا وَاللَّهِ لا أُبَالِي ذَلِكَ.
فَخَرَجَ أَبُوهُ وَتَرَكَ حَاتِمًا وَمَعَهُ جَارِيَتُهُ وَفَرَسُهُ وَفَلُوُّهَا، وَأَقْبَلَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَمِنْ قَيْسٍ يُرِيدُونَ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ، فَلَقُوا حَاتِمًا، فَقَالُوا: إِنَّا تَرَكْنَا قَوْمَنَا يُثْنُونَ عَلَيْكَ، وَقَدْ أَرْسَلُوا مَعَنَا إِلَيْكَ بِرِسَالَةٍ.
قَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَأَنْشَدَهُ الأَسَدِيُّونَ شِعْرًا لَعَبِيدِ بْنِ الأَبْرَصِ وَلِبِشْرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ الأَسَدِيَّيْنِ، يَمْتَدِحَانِهُ فِيهِ، وَأَنَشْدَ الْقَيْسِيُّونَ شِعْرَ النَّابِغَةِ يَمْتَدِحُهُ فِيهِ، فَلَمَّا أَنْشَدُوهُ، قَالَ: حَاجَتُكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّ لَنَا لَحَاجَةً.
قَالَ حَاتِمٌ: وَمَا هِيَ؟ قَالُوا: صَاحِبٌ لَنَا قَدْ أَرْجَلَ، وَإِنَّا لَنَرَاكَ مُعْسِرًا مِنَ الْمَالِ يَعْنُونُ مِنَ الإِبِلِ فَقَالَ حَاتِمٌ: خُذُوا فَرَسِي هَذَا فَاحْمِلُوا عَلَيْهَا صَاحِبَكُمْ، فَأَخَذُوهَا، فَعَمَدَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى فَلُوُّهِا فَرَبَطَتْهَا بِثْوبِهَا، كَيْ لا يَتْبَعَ أُمَّهُ، فَأَفْلَتْ وَتَبِعَ أُمَّهُ، فَاتَّبَعَتْهُ الْجَارِيَةَ لِتَرُدَّهُ، فَقَالَ حَاتِمٌ: مَا لَحِقَكُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَكُمْ فَذَهَبُوا بِالْفَرَسِ وَفِلُوِّهَا وَبِالْجَارِيَةِ، وَمَضَوْا فِي مَسِيرِهِمْ ذَلِكَ فَمَرُّوا بِعَبْدِ اللَّهِ أَبِي حَاتِمٍ، فَعَرَفَ الْفَرَسَ وَفَلُوَّهَا وَالْجَارِيَةَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَصَبْتُمْ هَذَا الَّذِي مَعَكُمْ؟ وَمَنْ أَعْطَاكُمْ؟ قَالُوا: مَرَرْنَا بِفَتًى كَرِيمٍ جَوَادٍ وَسِيمٍ، فَسَأَلْنَاهُ فَأَعْطَانَا، وَأَعْطَانَا مَا لَمْ نَسْأَلْهُ.
قَالَ: وَأَيْنَ تَرَكْتُمُوهُ؟ قَالُوا: بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا سَالِمًا.
وَقَالَ حَاتِمٌ فِي مَسِيرِ أَبِيهِ وَتَحَوُّلِهِ عَنْهُ، وَمَا صَنَعَ بِالإِبِلِ:
وَإِنِّي لَعَفُّ الْفَقْرِ مُلْتَمِسُ الْغِنَى ... وتَارِكُ شَكْلٍ لا يُوَافِقُهُ شَكْلِي