ومعلوم أنَّ الجهاد أفضل متطوع به، وفي هذا الحديث أن أفضله، هو كلمة الحقِّ الناقدة لجور الحاكم، فهذا نص واضح في أنَّ جهود إصلاح الأنظمة المنحرفة، بالوسائل المشروعة المعتبرة، أفضل الجهاد في سبيل الله تعالى.
وليس في هذا الحديث ونظائره، ما يقتضي إسراراً لكلمة النقد، بل هو بالحضِّ على إعلانها أوضح، إذْ ما جُعلت أفضل الجهاد إلاّ من أجل أنّ في الإعلان التعرُّض لبطش الظالم، وفي ذلك أعظم البذل للجهد، وارتكاب المشقة في سبيل الله تعالى، ولأنَّ في الجهر والإعلان تخويفُ الحاكم الجائر، من تشجيع المجاهر بالإنكار لغيره على الإنكار أيضاً، مما يؤدي إلى ارتداعه عن الظلم، فهي في الحقيقة وسيلة مؤثرة لكبح جماح السلطة وتقييدها.
وإما الإسرار فليس فيه في الغالب بذل النفس، لأنّه ليس مظنّة الأذى أصلا، بل قد أصبح الإسرار بالنصيحة للسلطة اليوم، من الوسائل السياسية الماكرة التي تُضفي على الظلم شرعية زائفة!
يستحيل تحقيق الدولة العادلة في هذا الزمن بغير رقابة فعّالة على السلطة تقيّدُها وتحملها على مقتضى الإصلاح، والعدل، فإن تعذّر الإصلاح تغيّرها.
هذا .. وقد تقرَّر شرعا، وعقلا، وواقعا، إستحالة أن يؤدِّي نظام الحكم دوره الأساس وهو الإصلاح، والعدالة _ لاسيما في هذا العصر _ إلاّ بوسائل الرقابة، والمحاسبة، التي تملك القدرة على الإصلاح الفعلي، لامجرد البيان القولي وترك السلطة سادرة في غيِّها، وجوْرها!
ولهذا فإنَّ تقييد السلطة في الإسلام كما هو فريضة دينية، هو أيضا ضرورة اجتماعية، وذلك انطلاقاً من حقيقتين اثنتين:
الأولى: أن تولّي السلطة مع احتكار أدوات القوة، والقدرة على استعمال العنف بلا قيود، مدعاة إلى الاستبداد، ضرورة انقياد الطبيعة البشرية لحبِّ التسلط المركوز فيها، وهذه الطبيعة وإن كانت يمكن معارضتها بالوازع الذاتي، غير أنَّه محجوبٌ في طيِّ القلوب، ولا يمكن ضمانه، أو ضمان استمراره، فضلاً عن أن باب ارتكاب المحظورات بالتأويل مفتاحه هو الاستبداد بالرأي، وهو ملازم للسلطة المطلقة من القيود، وهذا